كتاب «رصف» مصر الفصل الأخير!
مصطفى حجازي
هذا ما كتبه المصريون مجتمعاً ودولة.. على مدار أكثر من ستين عاماً، وعلى وجه الخصوص الأربعين سنة الأخيرة منها.. كُتِب كثير من سطوره بالمال الحرام والدم الحرام.. وقبلهما بجهل تحكّم!
بقى فيه الفصل الأخير.. وهذا الجيل هو من سيكتبه.. إما له وإما عليه.. إما لمصر وإما عليها.
كتاب توجبت قراءته.. على صفحات شوارع مدن المحروسة وقراها.. لكى نكمل ما بقى.
كل شبر من «رصف مصر» ينطق بكل سوءاتنا، أفراداً ومجتمعاً ودولة.. سلطة وحكاماً ومحكومين..!
كل شبر فيه حدثنا عن «التراجع الإدارى» فى تخطيط غاب.. وعن «الفساد المالى» فى رشوة وتضييع للأمانة.. عن محدودية الكفاءة.. وعن إهمال وتواكل وكسل.
فيه عن «أثر الحمق السياسى» فى نفاق للعامة جاء على حساب ترقية وعيهم.. وعن «التدليس السياسى» فى خطايا مسؤولين لم يحاسبوا، وتم التعامى عنها لكى تبقى قاعدة مماليك السلطة قوية منزهة عن كل نقص.. فيه عن تراجع مستوى تعليمنا وانغلاقنا عن العالم.. وفقداننا المعايير والتباهى بالجهل..!
كل شبر منه نقرأ فيه عن فقر الفكر وفقر الحياء.. نقرأ فيه عن فقر النفوس وفوضى التزاحم وقلة التراحم..!
نقرأ فيه عجزنا عن تشخيص حقيقة آفاتنا وقصورنا فى أن نعرف حداً أدنى من الجدية نتعامل بها مع الوقت والحياة.. بل حد أدنى من الجدية نتعامل بها مع الأموال والأرواح..!
نقرأ فيه كيف أن الهزل فى ثوب الجد يأتى فى كل مقام فى حياتنا.. نقرأ فيه كيف أن العلم فى مصر مقهور وأن الخرافة مقدسة.. وأن البذاءة والجهل والجنون بقيت ديدناً حتى صارت ديناً..!
عرفنا فيه كيف أفقدنا كل مصطلح معناه.. بالكذب على أنفسنا والإغراق فى الضلالات.. لأننا قرأنا فيه أول ما قرأنا أن ما نسميه شارعاً أو طريقاً ليس شارعاً أو طريقاً.. لأن اسمه الأدق مسرح الحادثة أو مسرح الجريمة.. على هذا أوجدناه فى المجتمع لا ليكون طريقاً ولكن ليكون مسرحاً لحادثة أو جريمة.
عرفنا فيه أن السؤال الغائب فى حياتنا هو سؤال: «لماذا؟»، والسؤال الأكثر حضوراً بالادعاء هو: «كيف»؟
تسلل من بين سطوره سؤال عاقل فى وسط موالد الجنون الصاخبة.. لطمنا السؤال الجاد: لماذا ننشئ طريقاً؟!.. ما هى علة وجوده.. والتى هى حقيقته؟!
هل لكى ندُب عليه جميعاً..؟ دوابَّ ومركبات وبشراً.. لو كانت تلك هى العلة.. فالأرض دون تدخل تكفى وتفى.. تحملنا دون كلل.
إذًا لماذا طريق..؟ هل لكى نتحرك عليه بفاعلية وأمان وانتظام وعدل..؟
إذاً علة وجوده أن يعين على التواصل الآمن من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية.. بأن يكون فاعلاً.. آمناً.. منظماً.. عادلاً.. وإلا لم يكن طريقاً..!
عاد السؤال ليلح ويجيب بأنه لن تكون لما ندَّعيه طريقاً «فاعلية» إلا من جودة رصفه.. ولن يكون له «أمان» إلا من تصميم كفء للحركة والمناورة عليه.. ولن يأتى «انتظامه» إلا بدقة تحديد سعته وتسمية مستخدميه من بشر ومركبات.. ولن يكون فى استخدامه «عدل» للفرد والمجتمع والدولة إلا بتعريف المؤهلين لاستخدامه من بشر ومركبات.. وأن يحكمهم جميعًا قانون رادع هدفه التيسير ومنع الخطأ.. قبل أن يكون هدفه الجباية والزجر والعقاب.
وحيث إنه بتعميم لا يقبل تخصيص.. ليس لدينا فى مصر كلها ما يمكن أن نطلق عليه طريقاً استوفى علة وجوده وهى التواصل من أجل التنمية.. وعناصر حقيقته من أمن وانتظام وفاعلية وعدل.. فعلينا حين ننصرف لحل مشكلة القتل اليومى فى حياتنا بحوادث السير.. أن نتواضع لله قليلاً.. ونسمى الأمور بأسمائها لنعرف ماذا نعالج.
وأن نعرف أن بغياب سؤالنا عن علة وجود أى شىء فى حياتنا.. فلن تتأتى حقيقته.. وستبقى أرض النكبات اختياراً..!
إذا لم نعرف لماذا نُعلم أو نتعلم، ولماذا نسوس، ولماذا نبنى اقتصاداً، وقبلها لماذا نبنى وطناً ومواطناً.. فلن تعيننا أى «كيفية» ندعيها أو نستوردها.. عن «سببية» تهدينا.
وبمثلها وبتقديم «السببية» عن «الكيفية» فى كل شىء.. ونحن نتعامل مع شؤون حياتنا الأخرى، فإذا تحدثنا فى تراجع تعليم أو صحة أو إعلام أو سياسة أو اقتصاد.. علينا أن نُعرِّف ما نحن بصدده.. كى لا نظلم أنفسنا ومستقبلنا.. وبهذا نبدأ خطوة أولى فى «حوار جاد حول المستقبل».. أخشى أن أوانه قد تجاوزنا.. وإن حضر بعض أهله..!
علينا أن نعرف هل نحن أمام ما يمكن أن يطلق عليه مؤسسة تعليم أو إعلام أو صحة أو سياسة أو غيرها، أم نحن بصدد ركام لا يقبل البناء عليه وأن ما بقى منه أطلال من ماض.. لم تترهل فقط عناصر مؤسساته.. الأخطر أن علة وجودها فى حياتنا غائبة عنا بالكلية..!
أول ملامح الجدية فى حوار المستقبل أن نقتفى الحقيقة بصدق.. وألا تصدمنا حقائق عوار مجتمعنا، وألا نختزلها بالشخصنة والتنميط، وألا ينخرط فيه غير العقلاء.. بالحد الأدنى لتعريف العقل، وأن يستثنى منه أصحاب النزق وفاقدو أهلية اللحظة.
فالمخزون الاستراتيجى للخطأ قد نفد.. ونحن نتحرك على أرضية يتآكل ما تبقى من محددات أمنها الإنسانى.. أى احتمالات البقاء من الفناء على محك العقل والجدية..!
حق المستقبل علينا الآن وقبل الآن وبعد الآن.. أن يكون لمصر «عقل مؤسسى» يملك مفردات عصره.. فلسفةً وعلماً وقيماً..!
مرة أخرى.. مصر بلا عقل وإن كان بها عقول.. وتلك هى حقيقة المرض ومدخل التعافى.
العقول إما مبعثرة أو مؤخرة أو محيدة ببيئة طاردة للكفاءة.. وبغير بيئة مقنعة وحاضنة أكثر من كونها جاذبة وفقط للكفاءة.. لن يوجد لمصر عناصر عقل أصبحت لا تقوى أن تحيا بدونه.
ولبناء هذا العقل المؤسسى شروط ومقدمات واستحقاقات ومنهج لبنائه.. شأنها شأن الطريق إذا أردناه حقيقةً..
وكما أن تسميتنا مسرح القتل طريقاً.. لم تشفع له بألا يكون بيئة حاضنة لضياع الأرواح والأموال وقتلنا فعلاً وكمداً.. فتسمية أى من المؤسسات القائمة بأنها عقل.. ستبقى شأن من يسميها، ولن يكون لذلك العقل نصيب من حقيقته إلا إذا استوفى شروطه.. وأولها أن نعرف.. ما هى علة وجود عقل مؤسسى لأى وطن.. ومن ثم نحدد عناصر بنائه ومنهج بنائه.
هذا السؤال هو مقدمة كل المقدمات وبدونه لا نستطيع أن ننبئ إلى أين المسير..!
وأول استحقاقات ذلك العقل أن يُستودع «حلم راشد» لهذا الوطن..
مصر يراوغها الحلم الواجب حتى الآن.. و«العقل هو شرط الحلم».. أما العواطف الجياشة وشتات التمنى فى غد أفضل فلن يخلقا حلماً لأمة.. فالأوطان لا تبنى بشعر الحماسة.. مهما كان عذباً.. فقديماً قالوا: أعذب الشعر.. أكذبه..!
فكّروا تصحّوا..