الحمد
لله الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، والصلاة والسلام على خاتم
رسل الله ، الرحمة المهداة، والسراج المنير سيدنا محمد، اللهم صل عليه وعلى
آله وصحبه وسلم أما بعد:
فإن الخوف من الموت همٌ يشغل
غالبية البشر، والناسُ يحاولون الفرارَ منه إما بالهروب من مجرد التفكير
فيه، وإما بمحاولات الحفاظ على الصحة السليمة بالرياضة والنظم الغذائية
الدقيقة، والفحوص الطبية المستمرة والدورية، ظناً منهم أن الجسدَ مادام
محتفظاً بحيويته ونشاطه فهو بعيدٌ عن الموت، وهم يعلمون أن الموتى في عمرِ
الشباب وقوة الأجسادِ أكثر بكثيٍر من الذين يموتون وهم عجائزُ، وهنا حقائقُ
لا يمكن الفرارُ منها :
الحقيقة الأولى: أنه لا جدوى من الفرار من الموت؛ قال الله تعالى:
(قُلْ
إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة:8)، وانظر إلى التعبير
(فإنه ملاقيكم) أي واقع بكم لا محالة، وكأن الشخص يظنه من خلفه فيفر ويهرب ويركض سريعا
وهو ينظر خلفه ويلتفت يميناً ويساراً فَيُفاجأ أنه أمامه.. وهذه حقيقة
واقعية مشاهدة كل يوم. تذكر إحدى الأمهات في بلد أسيوي أنها رأت في منامها
أن ابنها سيموت قريباً فخافت عليه وفزعت وإذا بالابن يأتي ويخبرها أنه
سيذهب في رحلة سياحية مع أصدقائه بالطائرة فقالت على الفور لا..لا تذهب، بل
لن تذهب. خوفاً عليه، ورفض الابن وجهز للسفر فتركته حتى اقترب الميعاد
وقبل سفره بقليل أخذت جواز سفره وأحرقته لِتُفوِّتَ عليه سفره خوفا عليه من
الموت، وبالفعل حدث ذلك لكن الابن حزن حزناً شديداً ودخل غرفته فنام، وبعد
قليل أخذت أمه تسمع الأخبار وإذا بها تعرض حطام الطائرة التي سقطت ومات كل
من على متنها.. إنها الطائرة التي كان ولدها عازماً على السفر بها فحزنت
لسماعِ الخبر وفرحت لنجاة ولدها وركضت لتوقظه وتبشره بنجاته بسببها قُم يا
ولدي.. انظر يا ولدي.. لكنه لا يستجيب .. ماذا حدث؟ لقد مات الولد على
سريره!! ماذا حدث ؟ لقد ظنت أنها تستطيع حمايته لكن هيهات هيهات.. إن الذي
حدث هو كما قال الله تعالى:
(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(النساء: من الآية78) هذه حقيقة .
الحقيقة الثانية: أن الموت ليس هو النهاية بل هو البداية للحياة الأخروية الأساسية الدائمة؛ قال الله تعالى:
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:16/17(.
وقال سبحانه
(وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (القصص:60).
وقال الشاعر:
ولو أنا إذا متنا تُركنــــــــــــــا لكان الموت راحة كــــــــــل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنــــــــــــــا ونسألُ بعده عن كـــــــل شـــيء
قال صلى الله عليه وسلم:
(والله لَتمُوتُنَّ كما تنامون،ولَتُبعَثُنَّ كما تستيقظون، ولتُحاسَبُنَّ عما تعملون).
فالآخرة
ضرورة دينية، وضرورة عقلية، وضرورة كونية، وهي حقيقة لا يشك فيها إلا غائب
عن الوعي، وسوف يفاجأ بها عند وقوعها وتكون عليه حسرة وندامة.
الحقيقة الثالثة: أن الدنيا دار اختبار، إنها الاختبار الأعظم لكل الناس، والنتيجة تظهر بعد الموت، قال تعالى:
(تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:1/2) ليختبركم أيكم أحسنُ عقيدةً، وعبادة، وصلاحاً في الأرض
وهذه
الحقيقة دلَّ عليها الدين، والعقل، فمحالٌ ثم محالٌ أن يكون كل هذا
الإبداع في الكون وفي المخلوقات لغير حكمة عظيمة وهدف سامٍ، وهو اختبار
الخلق وبيان المحسن من المسيء قال تعالى:
(
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُون*َ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115/116).
الحقيقة الرابعة: أن لذات الدنيا مُنَغَّصةً .. فلا الفرح فيها يدوم، ولا الشباب يدوم، ولا
الجمال يدوم، ولا الصحة تدوم، ولا المنصب فيها يدوم..يفرح الإنسان فيها
لحظات فيحزن بعدها كثيراً من الأوقات، يحب فيشقى بسبب من يحبه من أهل ومال
وولد كثيراً من الأيام، يتلذذ بطعام وشراب فيتألم بسببه ساعات وساعات..
يعمل أسبوعا ليستريح يوماً، يتمنى كثيراً فتحول دون ذلك كثيرٌ من العقبات،
منها المال..وإن وجد المال فقد الصحة وراحة البال.. وهكذا ما يجد شيئاً إلا
فقد أشياءً، ثم هو في نهاية هذه الدوامة أمام أمرين لا مفرَّ منهما، وهما:
الموت والهَرم، قال الشاعر:
لا طِيب للعيش ما دامت مُنغَّصةً لذَّاتُه بادِّكار الموت والهرم
قد يأخذه الأول في سن مبكرة، فإن تركه جاءه الهرم ليبدل صحته سقماً، وقوته
ضعفاً.. ضعفاً في الشهوة، وضعفاً في الجسم والأعضاء، وضعفاً في القوى
العقلية والحواس الإدراكية.. ضعفاً في كل شيء، وانصرافاً من الناس عنه بعد
أن كان الصاحب والقريب والحبيب المرغوب، وعندها قد يتمنى هو الموت الذي كان
يفر منه ظناً منه أن فيه الراحة من آلامه وأحزانه، وكثيرا ما نرى أناساً
يذهبون هم إلى الموت بالانتحار فراراً من واقع أليم أو أحداث مؤسفة.
والغائبون عن الوعي : هم الذين يفرون من ذلك بالخمر واللعب ومحاولات البحث
عن لذات وشهوات ..ولا يرغبون في مواجهة الحقيقة ولا مجرد التفكير فيها ،
كلما تعسر عليهم شيء هربوا إلى غيره، وهكذا هي الحياة والناس معها.. قال
الله تعالى في وصفها:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ
حُطَاماً)(الحديد: من الآية20).
هذه هي حقيقة لذات الدنيا، وقد لا يحب كثير من الناس التفكير في ذلك لكنَّ هذا ليس حلاً، ولا يجلب نفعاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الحقيقة الخامسة: أن العاقل من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت .. إنه عاقل؛ لأنه علم أنه لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.
إنه عاقل؛ لأنه علم أن محمداً رسول الله حقاً وصدقاً خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه مرسل للناس أجمعين.
إنه عاقل؛ لأنه علم أن الدنيا عمرها قصير، ومتاعها قليل، ومصائبها كثيرة.
إنه
عاقل ؛ لأنه علم أن الدنيا لا يمكن أن تكون هي النهاية فيفوز الظالم
بظلمه، والقاتل بقتله، والمفسد بفساده، ويخسر الصالح بصلاحه..
إنه عاقل؛ لأنه علم أنه يستحيل أن يستوي عند الله المؤمن الصالح، والمجرم والكافر، قال الله تعالى: (
أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثـية:21).
وقال أيضاً:
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (القلم:35-36).
إنه عاقل؛ لأنه علم أن الآخرة حقٌ ، وأنها خيرٌ وأبقى للمؤمنين المتقين.
إنه عاقل؛ لأنه فضَّل أن يتعب قليلاً ليستريح على الدوام.
الحقيقة السادسة: أن العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني..
إخوتي الأعزاء: هذه حقيقة من
لم يعلمها الآن سيعلمها يوم القيامة، يوم يندم ولا ينفع الندم، وهي تقصد
عجز البحث عن العقيدة الصحيحة، والإيمان السليم، والعمل بمقتضياتهما.
إنه
العجز – للأسف- عن إدراك الهدف من الخلق البديع المحكم ، قال تعالى:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)
والعبادة تشمل الحياة كلها في المسجد والعمل والأسرة والمجتمع كما يحب الله
ويرضى ، ومن العجز الظن بأن الدنيا فقط شهوةٌ، ولعبٌ، وزينةٌ، وسياحةٌ،
وأغنيةٌ، ومرقصٌ، أو منصبٌ ووزارة، أو أموالٌ وعمارة وتجارة، وعجز عن إدراك
ما وراءها.
ومن العجز تمنى على الله تحقيق الأمنيات بدون عمل.. تمنى
الجنة بدون عمل، تمنى من يحمل عنه الذنوب ويدافع عنه أمام الله، فتوجه
بالعبادة لأحد من البشر وترك الخالق العظيم.
وإن قوما غرتهم الأماني وقالوا نحسن الظن بالله، ولو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
ومن
أكبر العجز، من عجز عن معرفة أن الله واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا
صاحبة له، وأنه ليس كمثله شيء، وأن محمد خاتم رسل الله صلى الله عليهم
أجمعين..
قد يظن إنسان أننا نقول ذلك لأننا مسلمون، وأننا نناصر نبينا،
والحقيقة أن القلب والعقل والوحي ينطق ويؤكد ذلك؛ ودراسة سيرة النبي وحياته
صلى الله عليه وسلم من عقل منصف كفيلة برؤية هذه الحقيقة.
الحقيقة السابعة: أن الإنسان يفقد اتزانه وراحته حينما يفقد هذا الإيمان.. فيبتعد عن
التوازن السلوكي، والنفسي والمعرفي ، ويبتعد عن الراحة النفسية، وإننا
نشاهد من يَفجُرُ في هذه الحياة ..فيقتل ، ويسرق، ويشرب الخمور، ويزني،
ويرتشي، ويفسد في الأرض، ويرابي، ويأكل أموال الناس بالباطل..
ونجد من
يلهو ويلعب ويرقص ويغني ويتعرى من الملابس بل ويتعرى من الدين ومن
الأخلاق.. وبمرور الزمن يصبح هذا الوجه هو أساس الحياة، ومن يدعو لغير ذلك
يكون شاذاً منبوذاً، فيفقد الناس اتزانهم وأمنهم وسعادتهم .
بالله أهذه هي الحياة ؟!!
ثم بالله ألهذا خلق الله الخلق؟!!
ثم
نجد فريقاً آخر لا يقوى على تحمل مصاعب الحياة، ولا يفهم حقيقتها فيصاب
بالقلق، والاكتئاب، والأمراض النفسية التي يحاول أن يجد لها علاجاً بدون
جدوى..
وهكذا تجد كثيراً من الناس في غيبوبة الحياة حتى يأتيهم الموت ؛ فهم كالنيام وإذا ماتوا انتبهوا ورأوا هذه الحقائق كلها.
الحقيقة الثامنة: أن كثيرا من الناس عمَّروا دنياهم وخربوا آخرتهم .. سأل سليمان ابن عبد
الملك رجلاً صالحاً اسمه أبو حازم فقال : ما لنا نكره الموت؟ فقال لأنكم
عمَّرتم دنياكم وخرَّبتم آخرتكم؛ فكرهتم الانتقال من دار العمران إلى دار
الخراب .
فكيف القدوم على الله؟
قال: أما المحسنُ فكالغائب يقدم على أهله – فرحاً مسروراً بعد طول غياب – وأما المسيء فكالعبد الآبق - الهارب - يُساق إلى سيده..
ولذلك
نرى الناس يخافون ويكرهون الموت وهذا الخوف منه ما هو طبيعي لكل البشر،
وهذا لا شيء فيه، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها (إنا لنكره الموت)
ومنه ما هو نتيجة سوء عقيدة، وانعدام دين، ومعاصي وذنوب وفرحة بالدنيا
ورضى بها. وهذا ورد فيه قول الله عز وجل:
(إِنَّ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ*أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس:7/8).
الحقيقة التاسعة: أن الإيمان والعمل لما بعد الموت يغير وجه الحياة..
به
يشاهد الإنسان لذات غير منقطعة، وشهوات غير منغصة، وراحة بلا تعب،
وأفراحاً بلا حزن، وطمأنينة بلا خوف، وخيراً بغير شر، وشباباً بلا هَرم،
وحياة بلا يموت..
وهذه ليست خيالات وإنما هي حقائق جاءت في القرآن الكريم، والسنة النبوية، واتفق معها العقل الواعي، وانشرح لها القلب السليم.
وانظروا
إخوتي إلى رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كيف فهم الدنيا فهانت
عليه مصاعبها وآلامها. إنه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه الذي
كان يقول: أحب ثلاثاً ويكرهها الناس.. أحب الفقر والمرض والموت!
إنها أصعب شيء في الحياة
وحبها ليس من مطالب الدين، ولكن ذلك جاء من كثرة عمله للآخرة، ورؤيته لها
من الآيات والأحاديث، وشوقه إليها !
والآن ننظر لماذا يحبها؟
قال: لأن الفقر يخفف من حسابي
– ومعلوم أن الإنسان سيحاسب على أمواله من أين اكتسبها؟ وفيما أنفقها؟
وعليه أن يكتسب من الحلال وينفق في الحلال-
قال : وأحب المرض؛ لأنه يخفف
من ذنوبي – ومعلوم أنه ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى
الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه –
قال : وأحب الموت؛ لأنه
يقربني إلى أحب الناس – أي من سبقه من الصالحين وعلى رأسهم خاتم الأنبياء
والمرسلين صلى الله عليه وسلم – وهكذا كان يقول أحدهم عند الموت وكأنه يغني
فرحاً مسروراً:
غــــــــــــــــــــــــــداً نلقــــــــــى الأحبة محمــــــــــــــــــــدا وصحبـــــــــــــــــــــههذا
لأن قدوتهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي خُيِّر بين الدنيا
والآخرة فاختار الانتقال إلى الآخرة، والذي قال لابنته السيدة فاطمة
الزهراء – رضي الله عنها- عندما حزنت وقالت وا كرب أبتاه.. فقال لها وهو
يودع الحياة " ليس على أبيك كرب بعد اليوم " ، أي سينتقل إلى الراحة،
والسعادة، والخير الذي أعده الله له ..
إذاً : الإيمان بالآخرة، والعمل لها يغير وجه الحياة.
الحقيقة العاشرة: أن الدار الآخرة إما جنة وإما نار..قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:13/14).
والجنة
ليست للنعيم الروحي فقط ، وإنما هي للروح والجسد، إنها النعيم الدائم بلا
خوف ولا حزن ولا هم ولا تعب .. ولقد جاءت روايات كثيرة تصف دورها وأنهارها
ونساءها وطعام أهلها ، وكل ذلك يندرج تحت قاعدة أساسية، وهي: أن فيها ما لا
عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على عقل وقلب بشر. إنها دار الجزاء العظيم
من رب كريم، يقول الله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(السجدة:17)؛ فكل ما خطر ببالك من الخير والنعيم فالجنة أعظم من ذلك
بكثير، ويكفي أن موضع سوط فيها أو موضع شبر خير من الدنيا وما فيها، قال
صلى الله عليه وسلم: " وَلَقَابُ قَوْسِ
أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ - يَعْنِى سَوْطَهُ -
خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا
وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا ، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " رواه البخاري.
وأما النار فهي دار العذاب على الروح والجسد لمن كفر بالله العظيم، ولم
يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن بالأنبياء جميعا صلوات الله
وسلامه عليهم.. وهي عذاب تتساقط منه الجلود ثم تتبدل؛ ليتجدد عذابهم،قال
تعالى: (
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:56) وتتبدل جلودهم ؛ لأن مركز
الإحساس في الجلد – وهذا ما ذكره القرآن ولم يعرفه علماء الطب إلا حديثاً-
وإنها نارٌ تفوق نار الدنيا بسبعين مرة..
إنها حقيقة يسعى من آمن بها وعمل للنجاة منها بالإيمان والعمل الصالح، ويشقى من كذَّب بها وتمنى على الله الأمنيات، قال تعالى:
(فَأَمَّا
مَنْ طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى *وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعـات:37-41).
هذه عشر حقائق كاملة، أدعو الجميع إلى التأمل فيها والعمل بها؛ لنفوز براحة الدنيا والآخرة.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء
والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.