وجوب النيات في جميع الأعمال.
قال تعالى "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ".
وقال تعالى " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ " .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير " الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ــ فذكر في آخره ــ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " التقوى هاهنا يشير إلى صدره ثلاث مرات ".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " .
فصحَّ بكلِ ما ذكرناه أنَّ النفس هي المأمورة والجسد آلةً لها.
ووجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين :
أنَّ الله عز وجل أمرنا بشيئين : العبادة وهي العمل ، والإخلاص وهو النية فلا يجزئ أحدُهما دون الآخر، فصح أنه لا عمل إلا بنيةٍ مقترنة معه .
وقد أخبرَ اللهُ تعالى على لسانِ نبيهِ أنَّهُ لا ينظر إلى الصور، فقد أبطل أنه يُجزئ عمل الصورةِ أو الجسدِ المنفرد عن عملٍ القلب الذي هو النية ، وصحَّ أنَّ الله تعالى إنما ينظرُ إلى القلب و ما قٌصِدَ بهِ ، ولا بيان أكثر من تكذيب الله عز وجل للمنافقين في شهادتهم أنَّ محمداً رسولُ الله ، فلما كانوا غير ناوين بقلوبهم صاروا كاذبين فيه .
وهذا بيانٌ جليٌ في بطلان كُلِ قولٍ وعملٍ لم يُنْوَ بالقلب، ونحنُ نحكي أقوال الكفار ونتلوها في القرآن ولكنا لم نَنْوِها بقلوبنا، فلم يَضُرنا ذلك شيئاً.
وصحَّ بنص الحديث أنَّ التقوى في القلب فكُلُ عملٍ لم يَقْصِدُهُ القلب فليس تقوى ، وكل عمل لم يُقْصَدْ بالمُضغةِ التي بها يَصْلُح الجسد فهو باطلٌ وإنْ عمله الجسد ، وكل عملٍ لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوبُ عما أمرَ اللهُ تعالى به ِ فبطل بذلك قول من قال إن من توضأ تبرداً أو تيممَ بغير نيةٍ أو صام بغيرِ نيةٍ ، أنه يُجزيهِ عن الوضوءِ المأمور به للصلاة ، والتيممِ المأمور بهِ للصلاة ِ، والصيامِ المأمور بهِ وهكذا سائر الأعمال لأنه لم يُخلِصْ ولم يُفْرِدْ نيته لله تعالى في تلك الأعمال كما أمره الله تعالى بذلك .
بعض الشُبه والرد عليها :
الشُبَهة الأولى :
فإن قال قائلٌ منهم (أبو حنيفة): إنما أمر الله تعالى بغسل أعضاء الوضوء، وقد فعل ما أُمِرَ بهِ، وإن لم تكن له نية .
الجواب:
ما أمر الله تعالى قط غسلها مجردا عن النية بذلك للصلاة وبيان ذلك في الآيتين الكريمتين اللتين ذكرنا آنفاً ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وهذا عمومٌ لكلِ عمل ، وتخصيصُ ذلك يحتاجُ الى دليل .
وأيضا فإن الصلاة حركات من وقوف وانحناء ووضع رأس بالأرض فإن فعل ذلك إنسان متمددا ومتأملا شيئا بين يديه ومستريحا حتى أتم بذلك ركعتين في وقت صلاة الصبح لا ينوي بذلك صلاة الصبح أتروه يجزيه ذلك من صلاة الصبح المفترضة عليه؟؟؟
الشبهة الثانية:
قال زفرُ بنُ الهُذَيْل : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَهُوَ لَا يَنْوِي صَوْمًا أَصْلًا، بَلْ نَوَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ، وَلَا جَامَعَ ، فَإِنَّهُ صَائِمٌ وَيُجْزِئُهُ ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ نِيَّةٍ؟
وعندما سُئل عن سبب قوله هذا قال : رَمَضَانُ مَوْضِعٌ لِلصِّيَامِ وَلَيْسَ مَوْضِعًا لِلْفِطْرِ أَصْلًا، فَلَا مَعْنَى لِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِيهِ، إذْ لَا بُدَّ مِنْهُ؟
وقال أيضاً تعلُقاً بقوله تعالى " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ، فأمر بصيامه ، ولم يأمر فيه بالنية .
وقال أيضاُ: لأن صوم رمضان مستحق الصوم يمنع من إيقاع غيره فيه .
الجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: قال تعالى " وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " ، فأخبر أن المجازاة لا تقع بمجرد الفعل حتى يبتغي به الفاعل وجه الله تعالى بإخلاص النية ، ورُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما الأعمال بالنيات " فنفى العمل إلا بنية ، وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يقبل الله عملا بغير نية ".
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم "
فأخبرَ اللهُ تعالى على لسانِ نبيهِ أنَّهُ لا ينظر إلى الصور، فقد أبطل أنه يُجزئ عمل الصورةِ أو الجسدِ المنفرد عن عملٍ القلب الذي هو النية ، وصحَّ أنَّ الله تعالى إنما ينظرُ إلى القلب و ما قٌصِدَ بهِ وهذا في غاية البيان .
الوجه الثاني : َمِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ ( إجماع الصحابة ) : أَنَّهُ قَدْ صَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ صَامَ وَنَوَاهُ مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ ، وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ مَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْلِ .
فقد رَوَيْنا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَصُومُ إلَّا مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ .
وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَا يَصُومُ إلَّا مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَجْمَعْ قَبْلَ الْفَجْرِ؟
فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ أَصْلًا وقد خالف الحنفيون والمالكيون الإجماع ههنا.
الوجه الثالث: الأخبار المرفوعة الى رسول الله ومنها:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَه ".
الوجه الرابع:
لَمَّا كَانَ رمضان مَوْضِعًا لِلصَّوْمِ لَا لِلْفِطْرِ أَصْلًا وَجَبَ أَنْ يَنْوِيَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ بِذَلِكَ الصَّوْمِ، وَأَنْ يُخْلِصَ النِّيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا، وَلَا يُخْرِجُهَا مَخْرَجَ الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ.
الوجه الخامس:
وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ وَقْتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا أَوْ عَابِثًا : أَنْ يُجْزِئَهُ ذَلِكَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتٌ لَهَا، لَا لِغَيْرِهَا أَصْلًا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا .
وقال الماوردي:
وأما الاستدلال بقوله: إنه مستحق الصيام فيه ، فالجواب عنه من وجهين :
إنه فاسد بمن بقي عليه من وقت الصلاة قدر ما يؤديها فيه، فقد استحق زمانها عليه، ومنع من إيقاع غيرها فيه، ثم النية فيه واجبة فدل على فساد هذا الاستدلال. الحاوي الكبير ص399 .
والثاني: أن إيقاع غيره فيه لا يمنع لأنا قد نرى الإفطار يتخلله ، وفطر العيدين لما كان مستحقا يمتنع من إيقاع غيره فيه لم يتخلله غيره ، لاستحالة الصوم فيه ، فلم يصح الجمع بينهما ، وثبت ما ذكرنا من وجوب النية فيه .
الوجه السادس:
لأن الصوم عبادة تتنوع فرضا ونفلاً، فوجب أن تكون النية من شرطها كالصلاة، ولأن الصوم هو الإمساك، والإمساك قد يقع تارة عبادة وتارة عادة، فالعادة أن يمتنع من الأكل طول يومه لتصرفه بأشغاله، أو تقدم ما يأكله فلم يكن بد من نية تميز بين إمساك العادة، وإمساك العبادة، فأما الآية فلا دليل فيها على سقوط النية لأنها مجملة، وقد وردت السنة ببيانها وهي الأخبار الواردة في وجوب النية.
الشُبهة الثالثة:
قال مالكٌ: لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ فِي الصَّوْمِ وَأَمَّا فِي رَمَضَانَ فَتُجْزِئُهُ نِيَّتُهُ لِصَوْمِهِ كُلِّهِ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ كُلِّ لَيْلَةٍ، إلَّا أَنْ يَمْرَضَ فَيُفْطِرَ، أَوْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ - حِينَئِذٍ - مُجَدَّدَةٍ قَالَ: وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ لِكُلِّ لَيْلَةٍ.
وعندما سُئل عن سبب قوله هذا قال: رَمَضَانُ كَصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ؟
الجواب:
أن هذا الاستدلال باطل ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَحُولُ بَيْنَ أَعْمَالِهَا - بِعَمْدٍ - مَا لَيْسَ مِنْهَا أَصْلًا، وَصِيَامُ رَمَضَانَ يَحُولُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مِنْهُ لَيْلٌ يَبْطُلُ فِيهِ الصَّوْمُ جُمْلَةً وَيَحِلُّ فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، فَكُلُّ يَوْمٍ لَهُ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ وَالْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ؛ وَقَدْ يَمْرَضُ فِيهِ أَوْ يُسَافِرُ، أَوْ تَحِيضُ، فَيَبْطُلُ الصَّوْمُ، وَكَانَ بِالْأَمْسِ صَائِمًا، وَيَكُونُ غَدًا صَائِمًا.
وَإِنَّمَا شَهْرُ رَمَضَانَ كَصَلَوَاتِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، يَحُولُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْنِ مَا لَيْسَ صَلَاةً، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِكُلِّ يَوْمٍ فِي صَوْمِهِ مِنْ نِيَّةٍ.