الباب الثاني تعلم القرآن 9- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" خيركم من تعلم القرآن وعلمه " .
رواه البخاري وأبو داؤد والترمذي
هذا الحديث يعضد أحاديث أخرى مثل قوله صلى الله عليه وسلم :
" العلماء أمناء الله على خلقه " (1) . فالعالم الذي يتعلم القرآن ثم يعلمه غيره قد أصبح خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إبلاغ وتعليم كتاب الله بل خليفة الله في إبلاغ أوامر الله تعالى لعباده . وهو بذلك يرشدهم إلى خير الدنيا والإخرة فكان خليقا به أن يكون من خير عباد الله تعالى فإن أحب خلق الله إليه أنفعهم لعباده .
وهذا الحديث لا يعارض غيره من الأحاديث التي تحدد خير الناس مثل :
" خير الناس أنفعهم للناس " (2) . أو
" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (3) . بل إن هذه الأحاديث كلها يعضد بعضها بعضا في معانيها فخير الناس من تعدى نفعه إلى غيره وفضله على غيره بقدر زيادة فضله على الآخرين .
وتعلم القرآن وتعليمه يحب أن يقصد به وجه الله تعالى وأن يعمل المعلم بالقرآن قبل أن يعلمه غيره لكي لا يكون من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم . فمن تعلم العلم ليباري به السفهاء أو ليجاري به العلماء أو ليفتخر به ابتغاء المديح والثناء والشهرة أو اكتساب الأموال فليس ذلك من الله في شيء وأولئك حبطت أعمالهم وهم في الآخرة خاسرون . وأما من تعلمه ابتغاء وجه الله فعمل به وعلمه الناس وتلا القرآن تقربا إلى الله تعالى فذلك ممن يرجون ثواب الله والله عنده حسن الثواب .
إن الحث على تعلم القرآن وتعليمه في هذا الحديث يزيد عليه الأمر الصريح الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم
" بلغوا عني ولو آية " (4) . فكل من تعلم آية هو عالم بها ويقع عليه إبلاغها وعلى المسلم أن لا يحتقر عمله بقلة ثواب إبلاغ الشيء اليسير فلا يجوز احتقار شيء من المعروف مهما كان يسيرا .
10 - عن عبد الله بن عمرو
(5) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" يقال لصاحب القرآن إقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها " .
رواه الترمذي وأبو داؤد
يدخل المؤمنون الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكن منازلهم في الجنة تتفاوت بحسب أعمالهم ومن ذلك تلاوتهم لكتاب الله وحفظهم له فكلما كان المؤمن أكثر إتقانا لكتاب الله تعالى كلما كانت منزلته أعلى ودرجته أرفع يوم القيامة . ويؤكد هذا الحديث على أهمية ترتيل كتاب الله وتجويده . وسنأتي على تفصيل ذلك فيما بعد .
11- عن عقبة بن عامر
(6) رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال :
" أيكم يحب أن يغدو كل يوم بطحان أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم بالله ولا قطع رحم " فقلنا يا رسول الله كلنا نحب ذلك فقال : " فلئن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل " .
رواه مسلم وأبو داؤد
كان أهل الصفة من أفقر أهل المدينة وكانوا يسكنون في المسجد . فالمثال الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بمقارنة تعلم آية من كتاب الله مع اكتساب ناقة وهي يومئذ شيء كثير ، ربما تعدل ثمن سيارة في زمننا هذا - هذا المثال حث على تعلم القرآن وفضله على العمل الدنيوي البحت بدرجات كثيرة .
أما اكتساب الرزق الحلال لكي يتقي المرء سؤال الناس والحاجة إليهم بما يكفيه ويكفي من يعيلهم من أفراد أسرته فهو فرض أيضا . إن تعلم أسس الإسلام وفرائضه التي لا بد منها لكل مسلم مقدم على السعي العلم الذي هو من تكميليات الشريعة كالنحو والبلاغة مثلا .
أما إذا كان للمرء سعة في وقته بحيث يستطيع أن يتعلم دون أن يؤثر ذلك على اكتسابه للرزق فلا جدال في أفضلية طلب العلم والله يرفع الذين أوتو العلم درجات .
12- عن أبي هريرة
(7) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " .
رواه مسلم وأبو داؤد
يلاحظ في هذا الحديث أن ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في اكتساب العلم مقترن بالثواب يوم القيامة وليس بثواب دنيوي رغم أن العلم قد يدر على صاحبه مكانة دنيوية أو أجرا ماديا ولكن أقصى درجات الرفعة والمنزلة والثواب هي أن يذكر الله تعالى العبد كما قال
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (8) . لأن تلاوة كتاب الله ذكر لله تعالى والله يذكر من يذكره . إن الثواب والعقاب غالبا ما يكون من جنس العمل . فمن يسلك طريق العلم يسهل الله له الطريق إلى الجنة ومن يذكر الله بتلاوة كتابه يذكره الله ومن يذكر الله في ملأ يذكره الله في ملأ خير من ملأه ومن يغفل عن الله تعالى لا يأبه الله تعالى به .
وإن تدارس القرآن منار لاستلهام كل العلوم الشرعية فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : من أراد العلم فليثوِّر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين .
إن للمساجد منزلة عالية عند الله فهي بيوت العبادة وهي بيوت العلم وهي بيوت الذكر . فيها كانت تعقد حلقات العلم وفيها كانت تقرر عظائم الأمور ومنا تعقد رايات الجهاد وفيها يتم إنصاف المظلومين ومنها توزع الزكاة وتسير منها ركائب الحجيج . وتضاعف صلاة الفريضة فيها ويتضاعف ثواب المعلمين والمتعلمين فيها كما يتضاعف ثواب الذاكرين الله كثير والذاكرات .
ويحث الإسلام المسلمين على طلب العلم والبدء بالأهم ثم المهم . فليس لهم أن يطلبوا دقائق فرعية ويتركوا الأمور الهامة من العلوم سواء كان ذلك العلم من أمور دينهم أم من أمور دنياهم . فالطب والهندسة وغيرها من العلوم الطبيعية لا تقل في فضلها وحاجة الناس إليها عن بعض أمور دينهم قهي فروض كفايات إن تركها المسلمون أثموا جميعهم وإن قام بها بعضهم رفع الإثم عن الجميع . قال الله تعالى :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (9) .
13- عن أبي سعيد الخدري
(10) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" يقول الله تعالى : من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " .
رواه الترمذي (11)
الحديث القدسي : هو الحديث الذي يأتي بلفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه . وهذا حديث قدسي .
اتصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يحوي جوامع الكلم رغم أنه بشر . فبلفظة واحدة ترى معان عديدة تجمع جوانب شتى من الحكمة . فالاشتغال بالقرآن المذكور في هذا الحديث يضم تلاوته وتعلمه وتعليمه وتطبيقه والدعوة لما جاء فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنهي عنه في القرآن وهكذا بلفظ موجز شملت كل تلك الأعمال .
وللدعاء مكانة خاصة ؛ فالله يحب أن يَدعُوَه الناس لكي يستجيب لهم
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (12) ومع ذلك فإن من شغله شيء متعلق بالقرآن من الأمور التي ذكرناها من تلاوة وتعلم وتعليم وتطبيق فإن ثوابه بين السائلين محفوظ فهو يحصل على أفضل ما يحصلون عليه . وهكذا الحال بالنسبة للذاكرين الله كثيرا والذاكرات .
وثواب الدعاء يكون إما بإجابة الدعاء الذي يسأله العبد أو بأن يصرف الله عنه ضررا أو يسوق له ما يقابه من جزاء حسن في هذه الحياة الدنيا وإما أن يؤخر الله ثواب ذلك إلى يوم القيامة فيعطيه من الحسنات أو يحط عنه من السيئات .
وأفضل الدعاء ما كان دعاء لمنفعة عامة للناس في أمر يخص آخرتهم مثل الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه الله الدرجة الرفيعة العالية والشفاعة يوم القيامة فإن في ذلك نفع للبشر جميعا في أشد الساعات صعوبة وشدة .
ويلي تلك المرتبة من الدعاء ما كان دعاء خاصا لأمر يخص الآخرة مثل قول العبد اللهم اغفر لي ولوالدي . ثم يلي ذلك ما كان دعاء لمنفعة عامة يخص الدنيا مثل اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ورابع هذه الدرجات ما كان خاصا بالسائل ومتعلق بأمر دنيوي مثل قوله رب ارزقني . فلكل دعاء مرتبته من الثواب سواء أجيب كما طلب السائل أم لا . فالله يعطي المشغول بالقرآن وبذكر الله تعالى أفضل ما يعطي هؤلاء .
ويحدد هذا الحديث القدسي أمرا هاما يصلح أن يكون أساسا قويما لحياة المسلمين فإذا ما وضع المسلمون كلام الله تعالى فوق كلام الناس وفضلوه على ما سواه كانت أمور دنياهم بخير وأمور آخرتهم أفضل من ذلك ففضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه . وهذه هي المنزلة التي يجب على المسلمين أن يضعوا بها القرآن الكريم وأحكامه وأوامره . قال الله تعالى :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } (13) .
وقال أيضا :
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (14) .
14- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرئني يا رسول الله فانتهى إلى قوله تعالى :
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فقال يكفيني وانصرف الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" إنصرف الرجل وهو فقيه " .
رواه أبو داؤد والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه
هذا الرجل صادق السريرة مخلص النية بفطرته السليمة . إستنتج بعد دقائق معدودة من بدء رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليمه القرآن أنه قد تليت عليه آية عظيمة تستحق أن تكون قاعدة أصولية يتبع نهجها ويسير على هديها . هذه الآية تحدد ماللإنسان وما عليه فإن عمل خيرا ولو كان وزن ذرة يجزى به خيرا ، لذا كان عليه أن يكثر من ذلك وإن عمل شرا ولو كان وزن ذرة يعاقب فليجتنب ذلك . أليس ذلك هو لب الفقه ؟ فاستحق أن يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أصبح فقيها .
وفي القرآن الكريم آيات بينات كثيرة كل منها تستحق أن يوقف عندها طويلا وأن تعتمد كقاعدة يتذكرها المؤمن ويجد لها تطبيقا في كل ساعة من ساعات عمره ومثل هذه الآيات يجدها المسلم الذي يحب القرآن بنفسه فيقف عندها طويلا . إسمع قوله تعالى :
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " (15) وقوله تعالى :
" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (16) .وقوله تعالى :
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا } (17) وقوله :
{ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (18) .
هذا الأعرابي . مثله مثل حاتم الأصم
(19) الذي صاحب شقيق البلخي
(20) ثلاثين سنة فسأله يوما إنك صاحبي منذ ثلاثين سنة فما حاصلك فيها قال حصلت ثمانية فوائد من العلم وهي تكفيني منه لأني أرجو نجاتي وخلاصي فيها . فقال شقيق ما هي ؟ قال حاتم : الفائدة الأولى : أني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل واحد منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه إلى شفير القبر ثم يرجع كله ويتركونه وحيدا فريدا ولا يدخل في قبره منهم أحد . فتفكرت وقلت أفضل محبوب المرء ما يدخل في قبره ويؤنسه فيه فما وجدت إلى الأعمال الصالحة وأخذتها محبوبا لي لتكون سراجا في قبري وتؤنسني ولا تتركني فريدا . الفائدة الثانية : أني رأيت الخلق يعبدون أهواءهم ويبادرون إلى مداراة أنفسهم فتأملت في قوله تعالى :
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (21) وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمرت لمجاهدتها وما متعتها بهواها حتى ارتاضت في طاعة الله وانقيادها له . الفائدة الثالثة أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكه قابضا يده عليه فتأملت في قوله تعالى :
{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } (22) فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ففرقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله . الفائدة الرابعة : أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فيغتر بهم وزعم آخرون أنه في ثروة المال وكثرة الأولاد فيفتخر بهم وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك الدماء واعتقدت طائفة أنه من إتلاف المال وإسرافه وتبذيره فتأملت قوله تعالى :
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (23) فاخترت التقوى واعتقدت أن القرآن صادق وظنهم وحسابهم كلها باطلة . الفائدة الخامسة : أني رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ويغتاب بعضهم بعضا فوجدت ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم فتأملت في قوله تعالى :
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (24) فعلمت أن القسمة كانت من عند الله تعالى في الأزل فما حسدت أحدا ورضيت بقسمة الله تعالى . الفائدة السادسة أني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضا لغرض أو سبب فتأملت قوله تعالى :
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (25) وعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان . الفائدة السابعة : أني رأيت كل أحد يسعى بجد ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش بحيث يقع في شبهة أو حرام أو يذل نفسه وينقص قدره فتأملت في قوله تعالى :
{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } (26) فعلمت أن رزقي على الله قد ضمنه فاشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه . الفائدة الثامنة : أني رأيت كل أحد معتمدا على شيء مخلوق بعضهم إلى الدينار والدرهم وبعضهم إلى المال والملك وبعضهم إلى الحرفة والصناعة وبعضهم إلى مخلوق مثله فتأملت في قوله تعالى :
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (27) فتوكلت على الله حسبي ونعم الوكيل هو . فقال شقيق وفقك الله إني نظرت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فوجدت الكتب تدور على هذه الفوائد الثمانية فمن عمل بها كان عاملا بالكتب الأربعة .
15- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" من فسر القرآن برأيه فليتبؤ مقعده من النار " .
أخرجه الترمذي (28) وحسنه وهو عند أبي داؤد من رواية العبد وعند النسائي في الكبرى
القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا فما أجمل في آية فصل في آيات أخر . ثم يفسر القرآن بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلي ذلك فهم الصحابة الكرام عليهم لمعاني آيات القرآن الكريم ويستند المفسرون إلى هذه الأسس وإلى اللغة العربية التي أنزل بها القرآن وما يؤتيهم الله من فهم مستند إلى تقوى الله وحمل آيات القرآن على أفضل الوجوه . أما التفسير وفق الهوى والرأي غير المستند إلى الأسس السالفة إثبات أمر منكر أو محرم أو التحلل من أمر صريح أو نهي منصوص عليه أو لغرض أن تعرف مكانة المفسر بين العلماء ابتغاء الشهرة والجاه والسمعة فهذا ما يحذر الحديث الشريف منه ... فليبحث صاحبه عن مقعده في نار جهنم .
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي . وقال أبو الدرداء (29) رضي الله عنه : لايفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها ، أي يرى أن هناك علماء أكثر من تفسير واحد لآيات القرآن الكريم . وهذا ما دفع بعض العلماء أن يؤلفوا كتبا تحوي تأملات وجوانب من تفسير القرآن الكريم مثل تفسير التستري وفي ظلال القرآن . أما التفاسير المعتمدة الأخرى فكثيرة أقدمها تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لكن لم يصلنا كاملا وبعضه غير موثق وأشمل التفاسير القديمة هو تفسير الطبري الذي أخذ عنه معظم من جاء بعده من المفسرين .
ومن أفضل التفاسير تفسيرا القرطبي وابن كثير . ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تفاسير الآلوسي والقاسمي والبغوي والخازن والمنار . ومن أراد الاختصار فليرجع إلى تفسير الجلالين والبيضاوي والنسفي والتسهيل .
16- عن جندب بن عبد الله (30) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" اقرأوا القرآن ما أتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه " .
رواه الشيخان (31)
المقصود باقرأوا - والله أعلم - تدارسوا . والاختلاف المشار إليه في الحديث هو أي اختلاف ، سواء كان حول التفسير والمعاني أو كان حول أصول التجويد وعلم القراءات أو كان حول الاستنباط وكيفية تطبيق الأحكام .
ويتبين من الحديث أن الاختلاف الذي هو مدعاة للضعف والتفرق يجب اجتنابه بل وحتى التوقف عن تلاوة القرآن أو تدارسه وتعلمه عند ظهور بوادر الاختلاف لأن بركة التلاوة والتعلم تمحق نتيجة الاختلاف وتبتعد القلوب عن بعضها ويدخل الشيطان لكي يثير نوازع النفس الإنسانية من حب للظهور والعجب بالرأي والأنانية .
قال سهل التستري رضي الله عنه : في القرآن آيتان ما أشدهما على من يجادل في القرآن وهما قوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (32) أي يماري في آيات الله ويخاصم بهوى نفسه وطبع جبلة عقله والثانية قوله تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } (33) .
وأحد الأسباب الرئيسية للاختلاف هي الجدل وقد نهى الله عنه في الآية الكريمة السابقة أي الجدل في القرآن الكريم والجدل منهي عنه سواء كان جدلا في القرآن أم بغيره إن استند إلى التعصب للرأي والدفاع عن ذلك بأساليب الحق والباطل على السواء وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء من يترك المراء ( أي الجدل ) بأن يبني له بيتا في ربض الجنة إن كان مبطلا وفي أعلاها إن كان محقا (34) . أما الجدال دفاعا عن الحق ضد أهل الباطل فيجب أن يكون بالموعظة الحسنة . قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (35) وهو غير الجدل المنهي عنه في الحديث أعلاه والذي ينبع من نوازع النفس والهوى .
أما اختلاف وجهات النظر المستند إلى أسس صحيحة ومبعثة الاجتهاد مع التخلق بالأدب الرفيع واحترام وجهة نظر المخالف فهو غير داخل ضمن هذا النهي لأن الله تعالى قد خلق الناس نختلفين في قابلياتهم العقلية وإطلاعهم وخبراتهم ومن ثم لا بد وأن ينعكس ذلك على فهمهم وتصوراتهم .
17- قال ابن عباس رضي الله عنهما : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم فقلت له وما المحكم ؟ قال المًفَصَّل وهو من الحًجُرَات .
رواه البخاري
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حين يقول قد قرأت المحكم وأنا ابن عشر سنين فإنه يعني أنه قد حفظ الأجزاء الأخيرة من القرآن من سورة الحجرات إلى سورة الناس . وقد استحب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يلقن الطفل خمس آيات خمس آيات وفي ذلك رواية عن أبي العالية (36) قال : تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسا خمسا (37) . وفي رواية " من تعلمه خمسا خمسا لم ينسه " والمقصود بأن جبريل كان يقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم خمس آيات غالبا حيث قد ثبت أنه نزل أحيانا بأكثر من ذلك وأحيانا بآية أو بعض آية .
إن أحد حقوق الولد على والديه أن يعلماه القرآن ولهما بذلك الثواب الجزيل وسيأتي حديث عن بيان ثوابهما يوم القيامة .
ولقد حث الإسلام على تعليم الأطفال وأول ما يجب أن يعلموه من العلم هو إشارة القرآن . وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء من بعض أسرى بدر بأن يعلموا أعدادا من أطفال المسلمين القراءة والكتابة وفي ذلك مثل عظيم على أهمية العناية بتعليم الأطفال . كما أن تعلم القرآن في الصغر ينشئ الطفل على أساس قويم من الخلق والإتزان واتخاذ القرآن دليلا في الحياة إضافة إلى قوة قابلية الطفل على الحفظ في صغره وتأثير ذلك على نفاذ ذهنه وتقوية ذاكرته وتحسين لغته ونطقه ولذلك تأثير على كل ما يتعلم من علوم أخرى يحتاجها في حياته .
(1) رواه القضاعي وابن عساكر عن أنس وصححه السيوطي .
(2) رواه القضاعي عن جابر وصححه السيوطي .
(3) رواه الترمذي عن عائشة وابن ماجة عن ابن عباس وصححه السيوطي .
(4) رواه الإمام أحمد والبخاري في التأريخ والترمذي وصححه عن ابن عمرو .
(5) هو عبد الله بن عمرو بن العاص من زهاد الصحابة . كان أحد الصحابة القلائل الذي سمح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث في حياته وقد أسلم قبل أبيه وتوفي عام 68 هـ بمكة .
(6) عقبة بن عامر الجهني ولي مصر لمعاوية ثلاث سنين وكان فقيها فاضلا مات سنة 60 هـ .
(7) أبو هريرة الدوسي عبد الرحمن بن صخر كان من أهل الصفة وهو حافظ الصحابة مات سنة 57 هـ وهو ابن 78 سنة .
(8) سورة البقرة الآية 152 .
(9) سورة آل عمران الآية 104 .
(10) هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي . استصغر بأحد واستشهد أبوه فيها وغزا هو ما بعدها . روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير قال بايعت رسول الله أنا وأبو ذر وعبيدة بن الصامت ومحمد بن مسلمة أن لا تأخذنا في الله لومة لائم . توفي حوالي سنة 65 هـ .
(11) وقال حديث حسن غريب .
(12) سورة غافر الآية 60 .
(13) سورة الأنفال الآية 24 .
(14) سورة النور الآية 51 .
(15) سورة الشورى الآية 30 .
(16) سورة الحجرات الآية 10 .
(17) سورة فاطر الآية 28 .
(18) سورة الذاريات الآية 22 .
(19) أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان الأصم من قدماء مشايخ خراسان من أهل بلخ توفي سنة 237 هـ .
(20) أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي كان من مشايخ خراسان صحب إبراهيم بن أدهم كان يقول عملت في القرآن عشرين سنة حتى ميزت الدنيا من الآخرة فأصبته في حرفين وهما قوله تعالى { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .
(21) سورة النازعات الآيتان 39-40 .
(22) سورة النحل الآية 96 .
(23) سورة الحجرات الآية 13 .
(24) سورة الزخرف الآية 32 .
(25) سورة فاطر الآية 6 .
(26) سورة هود الآية 6 .
(27) سورة الطلاق الآية 3 .
(28) في رواية الترمذي : من قال في القرآن برأيه .. وقال حديث صحيح .
(29) هو عويمر وقيل عامر الأنصاري الخزرجي . أسلم يوم بدر وشهد أحدا وأبلى فيها بلاءا حسنا . قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد نعم الفارس عويمر . تولى قضاء دمشق في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه .
(30) جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي مات بعد سنة 60 هـ .
(31) أي البخاري ومسلم .
(32) سورة غافر الآية 4 .
(33) سورة البقرة الآية 176 .
(34) أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أنس وقال الترمذي حديث حسن .
(35) سورة النحل الآية 125 .
(36) أبو العالية هو رفيع بن مهران الرياحي من التابعين ثقة مات سنة 90 هـ .
(37) رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب .