ألذ شيء في الحياة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإنّ الله تعالى لم يخلق هذه الخليقة إلاّ لهدف عظيم ولغاية مهمة وهي عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده وإفراده بالعبادة، فيعبد الله جل وعلا ولا يشرك معه غيره وهذا ما بينه ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: 56]، أي يوحدوه ويفردوه بالعبادة، ولا يشركون مع الله سبحانه وتعالى غيره.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص ما يكون على تبيين هذه المنزلة، ومنزلة صاحبها في الدارين وأنّه مبوأ مكانا عظيما ومنزلة رفيعة حين الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجزيه خير الجزاء في جنات الخلد إن مات على توحيده وإفراده لله سبحانه وتعالى في عبادته بجميع أنواعه، بأقواله وأفعاله وبالأعمال الظاهرة والباطنة.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين هذه المنزلة، وأن من أفرد الله سبحانه وتعالى بالعبادة نجا من عذاب الله وكان مستحقا للجزاء العظيم في جنات الخلد، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: «من قال لا إله إلاّ الله مخلصا بها من قلبه دخل الجنة»، والمقصود بمن قال لا إله إلاّ الله: أي أنّه قالها بلسانه وعمل بشروطها ومقتضاها واعتقدها بقلبه اعتقادا جازما، وليس المقصود فقط القول فإنّ بعض المنافقين يقولون لا إله إلاّ الله، وبعض الكفار يقولون لا إله إلاّ الله، ولكن المقصود أن يقولها بلسانه ثم يعمل بمقتضاها من توحيد الله جل وعلا وعبادته كما يريد، وخلع ما سواه سبحانه وتعالى، هذا هو المقصود، من قالها في آخر حياته وختم له فيها دخل الجنة، فاعلموا هذا يا عباد الله علم اليقين، واعتقدوا به حق الاعتقاد.
فالمقصود أن يعمل بمقتضاها فلا يعقل أن يردد لا إله إلاّ الله دائما وهو يناقضها بقوله وعمله وفعله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص ما يكون على تبيين منزلة أهلها، وأن من مات عليها وإن كان عنده بعض الذنوب فإنّه حريٌ به أن يدخل تحت رحمة الله جل وعلا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: «يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا (يعني: ملأها) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة».
وليس المقصود بهذا أن يعمل العبد المعاصي والذنوب وأن يكتسبها ولا يزال مسرفا على نفسه، ولكن هذا بيان بأن التوحيد صاحبه موعود بالمغفرة سواء أُدخل الجنة ابتداءً وغُفر له ما غُفر من ذنبه، أو أنّه يعذب بذنوبه بنار جهنم ـ نسأل الله العافية ـ، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة.
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على بيان وتبيين منزلة التوحيد، كان أيضا حريصا على تحذير أمته من الشرك وأهله، ومن الشرك وفعله، وهذا من تمام نصحه لأمته صلوات ربي وسلامه عليه.
تأملوا يا عباد الله.. يقول أبو واقد الليثي رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ـ (يعني غزوة حنين) ـ ونحن حدثاءُ عهد بكفر ـ (يعني: أن بعضنا لم يسلم إلاّ للـتّو فبقيت عنده أشياء من أعمال الجاهلية) ـ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، ـ (أي: نتبرك بها) ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر!! إنّها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة..».
وانظروا عباد الله.. أين كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك حتى تعلموا منزلة التوحيد؟..
النبي صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى قتال الكفار ويحتاج إلى جهود الأشخاص ـ بعد الله سبحانه وتعالى ـ، ومع ذلك لما وقع منهم ما يُلبس لم يسكت صلى الله عليه وسلم ويقول: لأقاتل بهم أولًا ثم أعلّمهم التوحيد بعد ذلك، لا.. بل أنكر عليهم صلوات ربي وسلامه عليه لعلمه أن من مات على الشرك مخلدٌ في نار جهنم وإن أتى بأعمال كقدر السماوات والأرض لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [سورة المائدة: 72].
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه، قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أنْ لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت»، وذلك لأنّهم كانوا يتبركون بها ويرون أنّها تدفع العين، وأنّها تجلب النفع وتدفع الضر، وما كان هذا إلاّ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أنصح الخلق للخلق يعلم أن جزاء التوحيد أن صاحبه إلى جنات الخلد بإذن الله جل وعلا، وأن من أشرك بالله سبحانه وتعالى مخلد في نار جهنم.
من أجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذا حق الدعوة، وبذل حياته في تحقيق هذا الهدف، وبيان هذه الغاية التي خلقت من أجلها الخليقة.
ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرُّقى والتمائم والتِّولة شرك»، وهذا الحديث العظيم يبين لنا مسألة عظيمة جدا وهي: أن من الرُّقى وهي القراءة على الناس ما يكون شرك، وذلك أن يأتي أحد فيرقى بغير أسماء الله وصفاته، فيستعيذ بالشياطين أو يستعيذ بالجن من أجل الاستشفاء كما يفعله الدجالون والكهنة (والذين يُسمَّوْن في هذا الزمن سادة)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدا، فقد أسخطتم ربكم عز وجل»، فهذا السيئ، لا يسمى سيدا بحال من الأحوال لأنه يستعين بمردة الجن ويستعين بالشياطين، فإذا جاءه المريض ودخل عليه وجد شخصا أقذر ما يكون على وجه الأرض، متسخ الثياب أو أنه يكون ضريرا أعمى لم يستطع أن يرجع البصر لنفسه، فيأتي هذا العبد المخدوع يريد أن يطلب الشفاء من رجل لم يستطع أن يذهب الإعاقة عن نفسه، فكيف يأتي الصحيح إلى مريض لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ليرقيه بالرقى الشيطانية؟!
هذا النوع من الرقى شرك يا عباد الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتى كاهنا أو عرافا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم»، فيا ويح من أمضى حياته بالصلاة والصيام من حين نشأ منذ شبابه إلى حين شاخ بعد هذا العمر الطويل، فيأتي هذه الأعمال ويشرك بالله جل وعلا عند رجل من رجال السوء يسمى: (سيد أو مطوع) فيرقيه برقية شيطانية فيذهب دينه بعد أن يلتجأ القلب إلى الشياطين، ويأمره بذبح خروف أحمر أو ديك أصفر أو ما شابه ذلك، أو أن يأخذ من ملابسه شيئا فيبيّته عنده.
هذه من علامات الكهان يا عباد الله، ومن ذهب لهم فقد ضيع نصيبه من الله وقد أشرك بالله وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يحدث بينه وبين بعض الناس خصام فيقول: فلنذهب إلى السيد فلان نحلف عنده أنك لم تأخذ مالي، وهذا يرى أن ذلك الرجل يضر وينفع من دون الله، فمن اعتقد هذا الاعتقاد فقد خسر خسرانا مبينا وأشرك بالله، وهذا النوع من الرقى والقراءة شرك بالله ولا يجوز الذهاب إلى من كانت هذه صفاته، وأما الرقية والقراءة إذا كانت من كتاب الله وكانت بلسان عربي فصيح واعتقد العبد أنّها سبب من الأسباب وإنما المسبب هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي بيده الضر والنفع، إن فعل هذا وهو معتقد ذلك فلا بأس به، ولكن إذا ذهب إلى هؤلاء الدجالين الذين يدينون بالشرك ويستعينون بالشياطين فقد ضيّع نصيبه من الله، ومن أشرك بالله فلا ينفعه صوم ولا حج ولا صلاة ولو جاء بمثل هذه الأرض وملئها أعمالا صالحة فلن تنفعه عند الله.
التوحيد يا عباد الله.. التوحيد إفراد الله بالعبادة وأن لا يلتفت هذا القـلب إلاّ لله.
إن العبد لو جاء بشيء من أنواع المعاصي وكان موحدا يطمع أن يدخله الله في رحمته، ولكن لو كان مشركا فلا يطمع برحمة الله أن تناله، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [سورة المائدة: 72].
وأما المقصود بالتمائم فهو ما يعلقه بعض الناس، مما يسمى عند بعضهم (حرز) أو (جامعه) هذا الذي يُصنع من جلد، حيث يعمل الكاهن لمن قصده ورقة، ويجعل فيها رسوما متعارضة أو أنه يدعو فيها الشياطين، فيذهب الزائر بعد ذلك فيجلدها بجلد فيعلقها على رقبته أو في سيارته أو يضعها في مخدته، فمن اعتقد أن هذه التميمة تنفع وتضر من دون الله العظيم فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، والذي يقول (شرك) هو محمد صلى الله عليه وسلم، ليس المتكلم وليس السامع، فإياك يا عبد الله إن كان عندك من هذا شيء أن تنهي قراءة هذا الكلام وأنت لم تعاهد الله على التوبة، لأنك إن كنت تعتقد أن هذه (الحروز) مما يدفع الضر ويجلب النفع فقد كفرت بالله العظيم.
ومثل هذه الحروز تلك التميمة الذي تُعلَّق في السيارات والتي يعتقد البعض أنها تدفع عنه العين وتجلب له النفع هذه أيضا تعد من التمائم، من علقها فقد أشرك.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلق شيئا وُكِل إليه» والمقصود بتعلَّق: أي أنّه علَّقه وتعلق قلبُه به، ولذا تجد أن هذا الصنف يرى أنّه إن أزال هذه (الحروز والتمائم) وقعت به الطوام، فإن اعتقد هذا الاعتقاد وظن أنّها تجلب النفع وتدفع الضر فإنّه أشرك بالله سبحانه.
ومنها أيضا تلك الخواتم التي تجعل من أجل الخطوبة، فإذا خطب رجل امرأة ألبسها خاتما وألبسته خاتما، إن اعتقد أن هذا سبب من الأسباب لدوام المحبة، أو اعتقد أنه إذا خلع هذا الخاتم تضعف المحبة بين الزوجين أو أنه يحصل الطلاق والشقاق، فقد أشرك بالله، لأنّه جعل شيئا ليس له متعلق حسيٌّ ولا شرعيٌّ يضر وينفع من دون الله، وأما إذا لم يكن يعتقد أنها تضر وتنفع أو تجلب المحبة فإنّ هذا من عادات النصارى فلا يجوز لبسها.
فليحذر العبد أن يسلب دينه يا عباد الله، فإن التوحيد هو الغنيمة وهو المنزلة العظيمة، وهو الذي يرجو به العبد إن وقف بين يدي الله سبحانه وتعالى وحقق توحيده أن يشمله الله جل وعلا بعفوه رحمته، وأن يُدخله في عباده الصالحين، لأنّ كلًا من الناس مذنب، لكن مَن حقق التوحيد وجاء إلى الله سبحانه وتعالى بتحقيق العبودية له وحده كما أمر بها سبحانه، وكما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيطمع أن يدخل في رحمة الله.
هذا وليحذر المسلم من الشرك كله بجميع أنواعه وأصنافه، وعليه أن يتعلم التوحيد ويدرسه، لأنّه يحتاج إلى علم وتطبيق، لعل العبد أن ينجو بين يدي الله سبحانه وتعالى.
كما أنّه ممّا لابد أن يُعلم أن كل طريق إلى الله مسدود إلاّ طريقا واحدا وهو ما كان عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أراد النجاة والسعادة في الدارين فليجعل النبي صلى الله عليه وسلم له إماما ومتبعا، ولا يقدم على سنته صلوات ربي وسلامه عليه قول أحد كائنا من كان، فإنّه هو الصادق المصدوق وهو أنصح الخلق للخلق وهو الشافع المشفَّع، ومن صح توحيده واتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يدخل في شفاعته يوم القيامة، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين يقف على حوضه ويريد أن يسقى منه أتباعه، يحجب أقوام عن الحوض، فيقول صلى الله عليه وسلم: «يارب أمتي، أمتي.. ». فيقال: «إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ـ ما اصطنعوا من الأمور واتبعوا من الأهواء ـ، فيقول صلى الله عليه وسلم: «سحقا.. سحقا لمن بدل بعدي».
فإيّاكم ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور: من الآية 63]، قال الإمام أحمد: "الفتنة أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
فإيّاكم واتباع الأهواء واجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم لكم إماما ومتبعا، وخذوا العلم من أهله ممن يسلكون طريقه صلوات ربي وسلامه عليه، ويدلون الناس على سنته، ولا يجرفنّكم أهل الشرك وأهل الأهواء والبدع، الذين لا يريدون لسنته أن تعلو في الأرض، ويريدون أن تعلو أهواءهم ليصلوا إلى مآربهم.
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك طريق خير إلاّ دل هذه الأمة عليه ولا ترك طريق شر إلاّ حذر أمته منه، وكان مما قال صلوات ربي وسلامه عليه: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، أي أنّه مردود على صاحبه.
فالاتباع.. الاتباع له في أمره ونهيه، وإيّاكم من محدثات الأمور، وممّا اختلق أهل الأهواء وعامة الناس ودهماؤهم، الذين لا يريدون لدينكم أن يرتفع، ولكن يريدون أن ينطمس نور السنة، وتنتشر ظلمة البدع بين الناس، فيذهب الدين سنةً سنة، حتى تفشوَ البدع وتذهب السنة وتعلو الأهواء فلا يبقى من يدل الناس على الطريق الصحيح.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
موقع الشيخ سالم العجمي