سورة الناس: وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه0 فالاستعاذة تقدمت0 وأما المستعاذ به فهو الله تعالى رب الناس، ملك الناس، إله الناس0 فذكر ربو بيته للناس، وملكه إياهم، وإلاهيته لهم0 ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان الرجيم كما تقدم0 فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة0
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم هذا معنى ربو بيته لهم0 وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعوا تهم وكشف كرباتهم0
الإضافة الثانية: إضافة الملك0 فهو ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء النافذ القدرة فيهم الذي له السلطان التام عليهم فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم0
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية0 فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلاههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه0 وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة0 وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه ولا يتوكل إلا عليه لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومولي شأنك وهو ربك فلا رب سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماه0 فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم0 فكيف لا يلتجيء العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء، وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا0 ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضمر موقعه فيقول: رب الناس، وملكهم، وإلههم تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له0 فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو، لما فيهم من الإيذان بالمغايرة0 والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة0
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها0 فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه؛ ولكن ترك إلهه الحق، واتخذ إلها غيره0 ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع، إذا أمر0 وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته0 وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها0 فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق0 خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلاهيته0 فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس0 وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى0
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق الباريء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويسعد من يشاء ويشقي ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى0
وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك0
وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى0 ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى0 فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه0
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما خفي، وإن باديه إلى الخافي يسير0
فصل الاستعاذة من الشر: وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل0 فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه0 والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي0 فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب0 والشر كله يرجع إلى العيوب، والمصائب، ولا ثالث لهما0 فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة0
فصل الوسواس: إذا عرف هذا الوسواس: فعلال من وسوس0 وأصل الوسوسة: الحركة0 أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه0 فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه0 وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد0 ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن0 والظاهر والله تعالى أعلم أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس، وهو الأذن فقيل: وسوسة الحلي؛ لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له0 ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكد عند من يلقيه إليه، كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وسوس وسوسة0 فراعوا تكرير اللفظ؛ ليفهم منه تكرير مسماه0 ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه0 ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء؛ لأن الزلزلة حركة متكررة، وكذلك الدكدكة والقلقلة، وكذلك كبكب الشيء، إذا كبه في مكان بعيد، فهو يكب فيه كبا بعد كب، كقوله تعالى
فكبكبوا فيها هم والغاوون الشعراء 94)0 ومثله رضرضة، إذا كرر رضه مرة بعد مرة0 ومثله ذرذره، إذا ذره شيئا بعد شيء0 ومثله صرصر الباب، إذا تكرر صريره0 ومثله مطمط الكلام، إذا مطه شيئا بعد شيء0 ومثله كفكف الشيء، إذا كرر كفه وهو كثير0 وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف، لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر0 فإذا قلت: ذر الشيء، وصر الباب، وكف الثوب، ورض الحب، لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه0 فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته0 وكذلك قولهم عج العجل إذا صوت فإن تابع صوته قالوا عجعج وكذلك ثج الماء إذا صب فإن تكرر ذلك قيل ثجثج0 والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قبل وسوس0
فصل الخناس وبيان اشتقاقه: وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس، إذا توارى واختفى0 ومنه قول أبي هريرة:" لقيني النبي في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه "0
وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء0 ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى
فلا أقسم بالخنس التكوير 15)0 قال قتادة هي النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى0 وكذلك قال علي رضي الله عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار، فلا ترى0 وقالت طائفة: الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق؛ وهي السبعة السيارة0 قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء0 والخناس مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر0 فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها0 فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء؛ ليتوارى0 وذلك الإنخناس والانقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج0 فهو تأخر ورجوع معه اختفاء، وخنس0 وانخنس يدل على الأمرين معا0 قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس0 ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه، ويحدثه، فإذا ذكر الله تعالى، خنس0 وإذا لم يذكره، عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه0
وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله، وأن ذلك دأبه ودينه، لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا0 بل إذا ذكر الله، هرب وانخنس وتأخر0 فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها0 فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها0 ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته0
وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر؛ لأنه كلما اعترضه، صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة0 فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة0 ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا0 فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار0 فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه، أو يعذبه شيطانه0
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد، وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة! فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما0
فصل الصفة الثالثة للشيطان: وقوله الذي يوسوس في صدور الناس صفة ثالثة للشيطان0 فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس0 وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد، ونفوذا إلى قلبه وصدره0 فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات0
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، فقام معي؛ ليقلبني- وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا، فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حيي0 فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا0 أو قال: شيئا0 رواه البخاري0
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: إذا نودي بالصلاة، أدبر الشيطان، وله ضراط0 فإذا قضي، أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو0 رواه البخاري ومسلم0
ومن وسوسته ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك، فليستعذ بالله ولينته0 رواه البخاري ومسلم0
وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لإن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به0 قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة0 صحيح0
ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه، حتى ينسيه ما يريد أن يفعله0 ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه0 قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال
إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف 63)0
وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة شره جميعه0 فإن قوله
من شر الوسواس 4 ) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا؛ وهي الوسوسة التي هي مباديء الإرادة0 فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا مريم 83)0 أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا، كلما فتروا، أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة0 قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضيه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم: عجبت من إبليس في تيهه وقبح ما أظهر من نخوته0 تاه على آدم في سجدة، وصار قوادا لذريته شرور الشيطان0
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها؛ لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا0 فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف0 وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا0 ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به0 وما ذاك إلا لأن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه فأوقعه في الذنب ثم فضحه به0 فالرب تعالى يستره، والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته0 فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى0 ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته0 وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة0 ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان0 رواه البخاري ومسلم0 ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه0 رواه البخاري0 ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته0
ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم0 ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة0 ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين0 ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله0 فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض0 ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما0 وتصدى للمسيح حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه0 وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ودعوى أنه ربهم الأعلى0 وتصدى للنبي وظاهر الكفار على قتله بجهده والله تعالى يكبته ويرده خاسئا0 وتفلت على النبي بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة فجعل النبي يقول ألعنك بلعنة الله0 وأعان اليهود على سحرهم للنبي0 فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته0 ولا يمكن حصر أجناس شره فضلا عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه0
فصل الصدور والقلوب: وتأمل السر في قوله تعالى
يوسوس في صدور الناس )، ولم يقل: في قلوبهم0 والصدر هو ساحة القلب وبيته0 فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب0 فهو بمنزلة الدهليز له0 ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود0 ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى
وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم آل عمران 154)0 فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر، ووسوسته واصلة إلى القلب0 ولهذا قال تعالى
فوسوس إليه الشيطان طه 120)، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه، فدخل في قلبه0