تدبر - [18] سورة آل عمران (11)
وهل هناك تجارة بالدين؟ نعم.. بلا شك هناك تجارة بالدين..!
هذا ليس أمرًا حديثًا وليس قاصِرًا على دينٍ بعينه ولقد ذكره ربنا في كتابه ولا ينكر وجود تلك المتاجرة إلا جاهل أو جاحد..
يقول الله جل وعلا في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران من الآية:77]..
إنها حالة تجارة واضحة واستفادة من الدين وعهده وأيمانه مقابل ثمن قليل رصدها كتاب الله وجعل عليها وعيدًا في الآخرة..
{أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]..
أيضًا في نفس السورة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]..
تأمَّل.. {اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}..
هذه حالةٌ أخرى اختار أصحابها أن يُتاجِروا بما معهم من كتاب مقابل الثمن القليل.. وهو وإن ظهر للناس أنه لا يُعد ولا يُحصى فإن يظل قليلًا إذا قورن بما عند الله ينتظرهم إن لم يُفرِّطوا فيما معهم من الخير..
ولقد اقترن بتلك المتاجرة إلقاء لما معهم من العلم خلف الظهور وكتمان العلم وترك البيان {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}..
إذن فتلك التجارة الخاسرة آخِرًا وإن ربحت ثمنًا قليلًا عاجلًا موجودة ومرصودة ولا يمكن إنكارها.. ولا شك أنه دائمًا يوجد وسيوجد من يتخذ الدين مهنة والقربات مصدرًا للمنفعة والاستغلال..
وفي الحديث الصحيح: «بَشِّرْ هذه الأُمةَ بِالسَّناءِ والدِّينِ والرِّفعةِ والنَّصرِ والتَّمكينِ في الأرضِ فمَنْ عَمِلَ مِنهمْ عَمَلَ الآخرةِ للدُّنْيا لَمْ يَكُنْ له في الآخرةِ من نَصيبٍ» (صحيح الجامع). لكن هل هذا هو الأصل؟ هل مطلوب منا أن نسيء الظن في كل من عمل عملًا ظاهره الصلاح ونقول: أنه إنما يُتاجِر به وأن له أغراضًا خبيثةً من ورائه أو يبتغي به أهدافًا عاجلة ومآرب دنيوية قاصرة؟!
الحقيقة أن هذا من أبشع الظلم وأشنعه ويعد من الرجم بالغيب إن أطلق هكذا بغير دليل ثابت وقرائن واضحة والله جل وعلا يقول في آل عمران أيضًا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]..
هذا هو العدل الرباني والقسطاس القرآني المستقيم..
كما أن هناك من هم بالدين مُتاجِرين فهناك من لا يقبل ذلك ولا يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا..
هم أيضًا يُتاجِرون لكن تجارتهم مختلفة تمامًا..
إنها تجارة مع الله.. تجارةً لن تبور..
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]..
هؤلاء موجودون وكذلك الآخرون المنتفعون المستغلون..
لا يُنفى وجود هؤلاء ولا يُساء الظن دومًا بأولئك..
فقط يتبيَّن المرء ويحذر من تجارة الدين والمتاجرين بالدين ولا يستاقَ في الوقت نفسه خلف تلك الفوبيا..
فوبيا التجارة بالدين!