آثار عن فتوحات المسلمين في كتب الفرنجة :
و الآن إلى الفقرة الثانية من قصَّة التابعي الجليل عبد الرحمن الغافقي .
تحدَّثنا في الدرس الماضي عن القصَّة الأولى ، و اليوم نتحدَّث عن القصَّة الثانية و الأخيرةِ .
الحقيقة أن الأجانب الفرنجة في كتبهم ، و في تاريخهم ، و في كتب أدبهم ، آثارٌ كثيرةٌ عن فتوحات المسلمين في بلاد الأندلس ، فالشاعر الإنجليزي سوذي يصف جيوش المسلمين التي غزتْ أوروبا بعد فتح الأندلس ، و تعلمون أن جيوش المسلمين فتحت الأندلس ، أي أسبانيا اليوم و البرتغال ، و بعدها توجَّهت إلى فتح أوروبا بدءًا بفرنسا ، ووصلتْ إلى مئة كيلومتر من باريس ، و في بعض الروايات إلى مسافة أربعة عشر كيلو متر من باريس فهذه المعركة الشهيرة ؛ معركة بلاط الشهداء يتحدَّث عنها بعضُ الأجانب ، فيقول الشاعرُ الإنجليزي سوذي يصف جيوش المسلمين التي غزت أوروبا بعد فتح الأندلس ، من عربٍ و بربرٍ ، جموعٌ لا تُحصَى من عرب و بربر و رومٍ خوارج و فرسٍ و قبطٍ و تتَر قد انضَوَوْا جميعا تحت لواء واحد يجمعهم إيمانٌ ثائرٌ راسخُ الفتُوَّة ، و حميَّةٌ متلظِيةٌ كالشَّرر ، و أخوَّةٌ مُذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، تجمعهم أخوَّةٌ مذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، قال تعالى:
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "﴾[سورة الانفال: 63 ]
تجمعهم أخوَّةٌ مذهلةٌ لا تفرِّق بين البشر ، لم يكن قادتُهم أقلَّ منهم ثقةً بالنصر بعد أن ثمِلوا جميعاً بحُمَّى الظَّفرِ ، أي أنَّ النصرَ تتابع عليهم و اختالوا بتلك القوَّة القوية التي لا يقف أمامها شيءٌ ، هذه القوَّة القويةُ التي لا يقف أمامها شيءٌ ، و أيقنوا أنّ جيوشهم لا يمكن أن يُلِمَّ بها الكلالُ أي التعب ، فهي دائماً فتِيَّةٌ مشبوبةٌ كما انطلقتْ أوَّلَ مرة ، و آمنوا بأنها حيثما تحرَّكت مشى في رِكابها النصرُ و الغلبةُ ، و أنها ستندفع دائمًا إلى الأمام حتَّى تصبح مثل الرمال المُحرِقة المنتثرة على صحراء العرب ، و تقف فوق صخور مكة الصلبة . هذا مقطعٌ مترجَمٌ لقصيدة لشاعر إنجليزي اسمُه سوذي يصف فتوحَ المسلمين لأوروبا في عهد التابعيِّ الجليل عبد الرحمن الغافقي .دخول الناس في الإسلام كان همّ الجيش الذي قاده عبدُ الرحمن الغافقي :
مؤلِّفُ الكتاب يخاطب هذا الشاعر : لم تكن أيُّها الشاعرُ بعيدًا عن الحقيقة أو هائمًا في أودية الخيال في كثيرٍ ممَّا قلتَ ، فقد كانت الجيوشُ التي قادها المجاهدون لإخراج آبائك من جاهليَّتهم الجهلاء كما وصفتَ ، ففيها عربٌ أقوياء ، أقوياءُ بالله هبُّوا إليكم من الشام ، من الحجاز ، من نجدٍ ، من اليمن ، و من كلِّ مكان في جزيرة العرب كما تهُبُّ الريحُ المرسلَة ، و فيها بربرٌ أعزَّةٌ بالإسلام تدفَّقوا عليكم من فوق جبال الأطلس كما يتدفَّق السيلُ العرِم ، و فيها فُرْسٌ عافتْ عقولُهم وثنيةَ الأكاسرة و فاءت إلى دين التوحيد و صراط العزيز الحميد ، و فيها رُومٌ خوارج كما قلتَ ، و لكنَّهم خرجوا عن الظلم و الظُّلمات و انحازوا إلى نور الأرض و السموات ، وهُدُوا إلى الدين القيِّم ، و فيها قِبطٌ رفعوا عن رقابهم نيرَ العبودية للقياصرة ليعيشوا كما ولدتْهم أمَّهاتُهم أحرارًا في أكناف الإسلام ، نَعَم لقد كان الجيشُ الذي قاده عبدُ الرحمن الغافقي و أسلافُه لإنقاذ أجدادك من الجاهلية فيه الأبيضُ و الأسودُ و العربيُّ و الأعجميُّ ، و لكنَّهم انصهروا جميعًا في بوتقة الإسلام فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا ، و قد كان همُّهم كما ذكرتَ أن يدخلوا الغربَ في دين الله كما أدخلوا الشرقَ من قبلُ ، وأن يجعلوا البشريَّةَ كلَّها تُطأطِئ الرأسَ لإله الناس ، و أن يعُمَّ نورُ الإسلام بَطاحَكم و أوديتَكم ، و أن تشرق شمسُه في كلِّ بيتٍ من بيوتكم ، و أن يُسوِّيَ عدلُه بين ملوككم و سُوقتِكم ، و كانوا قد عزموا على أن يدفعوا أرواحَهم ثمنًا لهدايتكم إلى الله و إنقاذكم من النار .
القصة الأخيرة لجيش عبد الرحمن الغافقي :
و بعد : فالقصَّةُ الأخيرةُ لهذا الجيش كما يلي: تناهتْ إلى دُوقِ أُوكتانيا - الدوق أي الحاكم؛ أوكتانيا مقاطعة من مقاطعات فرنسا - الأخبارُ المُفزِعةُ عن مصرع صهره عثمان بن أبي نُسعة ، و بلغته أنباءُ النهاية الحزينة التي صارت إليها ابنتُه الحسناءُ مِينِين ، ابنةُ هذا الدوقِ قِيدَتْ أسيرةً إلى دمشق ، وصهره الذي خان المسلمين في الأندلس قُتل ، فأدرك هذا الدوق - دوق أوكتانيا - أنّ طبول الحرب قد دقَّت ، و أيقن أنّ أسد الإسلام عبد الرحمن الغافقي مُمْسٍ في دياره أو مُصبِح ، فتأهَّب للدفاع عن كلّ شبر من أرضه دفاع المُستَميت ، و استعدَّ للنضال دون نفسه ومملكته استعدادَ المُسْتبسِل ، فقد كان يخشى أنْ يُساق هو الآخر أسيرًا إلى دار الخلافة في الشام كما سِيقتْ ابنتُه - الشامُ هي دمشقُ – التي كانت تحكم معظمَ جمهوريات الاتِّحاد السوفيتي ، و كانت تحكم شمالَ إفريقيا بكامله ، و بلادَ إسبانيا اليوم و البرتغال ، و جزءاً كبيراً من بلاد فرنسا ، قال تعالى:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[سورة النور: 55 ]
فقد كان يخشى أن يُساق هو الآخرُ أسيراً إلى دار الخلافة في الشام كما سيقت ابنتُه ، أو أنْ يُحمَل رأسُه على طبقٍ و يُطاف به في أسواق دمشق كما طِيفَ برأس لذِرِيق ملكِ إسباني من قبلُ ، لم يُكذِّب عبدُ الرحمن الغافقي ظنَّ الدوق فانطلق بجيشه من شمال الأندلس ، انطلق كالإعصار و انصبَّ على جنود فرنسا من فوق جبال البِرِنيه كما ينصبُّ السيفُ ، و كان عدَّةُ جيشه مئة ألف مجاهد ، بين جوانح كلٍّ منهم قلبُ شجاع لا تأخذه في الله لومةُ لائمٍ ، في عروقه عزيمة ماردٍ ، يمَّم الجيشُ الإسلاميُّ وجهه شطرَ مدينة آرِل الواقعة على ضفاف نهر الرُّون ، فلقد كان له معها حساب ، ذلك أنَّ آرل هذه كانت قد صالحت المسلمين على أن تدفع لهم الجزيةَ فلمَّا استُشهد السَّمحُ بن مالك الخولاني في معركة تولوز و تضعْضَع المسلمون لمصرعه ، نبذ أهلُ آرل الطاعةَ ، و نكثوا العهدَ ، و امتنعوا عن دفع الجزية ، و لما بلغ عبدُ الرحمن الغافقي ضواحي المدينة وجد أنَّ أَوَد دوق أوكتانيا قد عبَّأ قوَّاته الكثيفة عندها ، و حشدها حول تُخومها ، و تصدَّى لردّ الزحف الإسلامي عليها ثم ما لبث أن التقى الجيشان وجهًا لوجهٍ و دارت بين الفريقين معركةٌ طحونٌ ، قذف خلالها عبد الرحمن الغافقي بكتائبَ من جيشه تحبّ الموتَ أكثر مما يحب أعداؤُها الحياةَ ، فزلزل أقدامَ العدوِّ و مزَّق صفوفه ودخل المدينة منتصرًا ، و غنِم منها غنائم عزّت عن الحصر ، أما دوق أود فقد فرَّ بمن بقي حيًّا من جنوده ، و طفق يُعِدّ العدَّة للقاء آخر مع المسلمين فقد كان يعلم أن معركة آرل كانت بدايةَ الطريق و ليست نهايته . عبر عبد الرحمن الغافقي بجيشه الجرَّار نهرَ الجارون و طفقت كتائبُه الظافرة تجوس مقاطعة أوكتانيا ذاتَ اليمين و ذات الشمال ، و أخذت المدنُ و القرى تتساقط تحت سنابك خيله كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبّت عليها الرياح الهوج ، و أضاف المسلمون إلى غنائمهم السابقة غنائم لاحقة لم ترها عينٌ من قبلُ ، و لم تسمع بها أذنٌ ، و قد حاول دوق أوكتانيا أن يتصدَّى لهذا الزحف الكبير مرةً أخرى فاشتبك مع المسلمين في معركة ضروس ، لكنَّ المسلمين ما لبثوا أن هزموه هزيمةً طاحنة ، سو أنزلوا به نكبةً ساحقة مدمِّرةً ، و مزَّقوا جيشه شرَّ ممزَّق ، و تركوا جيشه بين قتيل و أسير و هزيم ، ثم اتَّجه المسلمون إلى مدينة بوردو كبرى المدن الإفرنسية آنذاك ، و عاصمة مقاطعة أوكتانيا ، و خاضوا مع أميرها معركة لا تقلُّ هولاً عن المعارك السابقة ، و استبسل فيها المهاجمون و المدافعون استبسالًا يثير العجب و الإعجاب ، و لكنَّ المدينة الكبيرة الخطيرة ما لبثت أن سقطت في أيدي المسلمين كما سقطت أخواتُها من قبل ، و ما لبث أميرُها أنْ قُتل في جملة القتلى ، و أحرز المسلمون غنائمَ بوردو ما هوَّن في أعينهم كلَّ ما حازوه من غنائم ، و كان سقوطُ بوردو في أيدي المسلمين فاتحةً لسقوط مدنٍ آخرى كثيرة خطيرة أهمُّها لِيون - ثاني مدن فرنسا الآن - وبيزانسون و سانسْ ، و كانت هذه الأخيرةُ لا تبعد عن باريس أكثرَ من مئة ميل ، أي مئة وخمسون كيلو متراً ، اهتزَّت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها لسقوط نصف فرنسا الجنوبي كلِّه في يد عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر ، و فتح الفرنجةُ أعينَهم على الخطر الداهم ، و دبَّ الصريخُ في كل مكان يدعو العجزةَ و القادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهول القادم من الشرق ، و يحضُّهم على التصدّي له بالصُّدور و السيوف ، و يدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العتادُ ، فاستجابت أوروبا لدعوة الداعي ، و أقبل الناسُ على الانضواء تحت لواء شَارْل مارتل ، و معهم الشجر و الحجر و الشوكُ و السِّلاح ، و كان الجيشُ الإسلاميُّ آنذاك قد بلغ مدينة تور ، طليعة مدن فرنسا وفرةً في السكان ، و قوَّةً في البنيان ، و عَراقةً في التاريخ ، و كانت المدينةُ فوق ذلك تختال على أكثر مدن أوروبا بكنيستها الفخمة الضخمة العامِرة بجميل الأعلاق ن وكريم النفائس، فأحاط بها المسلمون إحاطة الغِلِّ بالعنق و انصبّوا عليها انصباب المنون إذا جاء الأجلُ ، و استصرخوا في سبيل افتتاحها الأرواحَ و المُهج ، فما لبثتْ أن سقطت بين أيديهم على مرأى شارل مارتل و سمعه . وفي العشر الأخير من شعبان سنة أربع و مئة للهجرة زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه الَّلجب على مدينة بوَاتييه ، و هناك التقى مع جيوش أوروبا الجرَّارة بقيادة شارل مارتل ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المسلمين و الفرنجة فحسب ، و إنما في تاريخ البشرية جمعاء ، وقد عُرِفت هذه المعركة بمعركة بِلاط الشُّهداء ، و كان الجيشُ الإسلاميُّ يومئذٍ في ذِروة انتصاراته الباهرة ، لكنَّ كاهله كان مُثقلًا بتلك الغنائم التي انصبَّت عليه انصبابَ الغيث ، و تكدَّستْ في أيدي الجنود تكدُّس السُّحب ، و قد نظر عبد الرحمن الغافقي إلى هذه الثروة الهائلة نظرةَ قلق و إشفاق و توجَّس منها خِيفةً على المسلمين ، فقد كان لا يأمن أن تشغل هذه النفائسُ قلوبهم عند اللِّقاء ، و أنْ تُوزَّع نفوسُهم في لحظات البأس ، و أن تجعل إحدى عيني المقاتل منهم على العدوِّ المُقبِل عليه و عينَه الأخرى على الغنائم التي في يديه ، و لقد همَّ بأن يأمرَ جنودَه بالتَّخلُّص من هذه الثروات الطائلة الهائلة ، و لكن خشِيَ ألا تطيبَ قلوبُهم بذلك القرار الخطير ، و ألا تسمح نفوسُهم بالتَّخلِّي عن ذلك الكنز الثمين ، فلم يجد وسيلة خيرًا من أن يجمع هذه المغانم في مُخيَّمات خاصَّة و أن يجعلها وراء المُعسكر قبل إنشاب القتال .أحداث معركة بلاط الشهداء :
وقف الجيشان الكبيران بضعةَ أيام ، كلٌّ منهما قُبالةَ الآخر في سكون و ترقُّبٍ و صمت كما تقف سلسلتان من الجبال إحداها في وجه الأخرى ، فقد كان كلٌّ من الجيشين يخشى بأسَ عدوِّه و يحسب للقائه ألف حساب فلمَّا طال الوقتُ على هذه الحال ووجد عبد الرجمن الغافقي مراجِلَ الحميَّة و الإقدام تغلي في صفوف رجاله ، آثر أن يكون هو البادئ بالهجوم معتمدًا على مناقب جنده ، متفائلًا بحسن طالعه في النصر ، انقضَّ عبد الرحمن الغافقي بفرسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود الكاسرة ، و صمد لهم الفرنجةُ صمود الأطواد الراسخة ، و انقضى اليومُ الأول من المعركة دون أن ترجح فيه كفَّةٌ على كفَّةٍ ، و لم يحجز بين المتقاتلين غير هبوط الظلام على ميدان القتال ، ثم تجدَّد النِزالُ في اليوم الثاني ، و حمل المسلمون على الفرنجة حملاتٍ باسلة و لكنَّهم لم ينالوا منهم وطرًا ، و ظلَّت المعركةُ تدور على هذه الحال سبعة أيامٍ طويلةٍ ثقيلةٍ ، فلمَّا كان اليوم الثامنُ كرَّ المسلمون على عدوِّهم كرَّةً واحدةً ، ففتحوا في صفوفه ثُغرةً كبيرةً لاحَ لهم من خلالها النصرُ كما يلوحُ ضوءُ الصبح من خلال الظلام - الذي حصل في معركة أُحُدٍ تكرَّر في هذه المعركة - عند ذلك أغارت فرقةٌ من كتائب الفرنجة على معسكرات الغنائم ، فلما رأى المسلمون أنَّ غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم ، اِنكفأ بعضُهم لاستخلاصها منهم فتصدَّعت بذلك صفوفهم ، و تضعضعت جموعُهم، وذهبت ريحُهم فهبَّ القائدُ العظيمُ يعمل على ردِّ المنكفئين لمدافعة الهاجمين ، و سدِّ الثغور ، و فيما كان بطلُ الإسلام عبد الرحمن الغافقي يزرع أرض المعركة على صهوة جواده الأشهبِ جِيئَةً و ذهاباً ، و كرًّا و فرًّا أصابه سهمٌ نافذٌ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العُقابُ من فوق قمم الجبال ، و ثوى صريعاً شهيدًا على أرض المعركة ، فلما رأى المسلمون ذلك عمَّهم الذُّعرُ ، و أصابهم الاضطرابُ ، و اشتدَّت عليهم وطأةُ العدوِّ ، و لم يوقِف بأسَه عنهم إلا حلولُ الظلام ، فلما أصبح الصُّبحُ وجد شارل مارتل أن المسلمين قد انسحبوا من بواتييه ، من أرض المعركة ، فلم يجرؤ على مطاردتهم ، ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدةً من مكائد الحرب دُبِّرتْ في الليل ، فآثر البقاءَ في مواقعه مكتفيًا بذلك النصر الكبير ، لقد كان يومُ بلاط الشهداء يومًا حاسما في التاريخ ، أضاع فيه المسلمون أملًا من أعزِّ الآمال ، و فقدوا خلاله بطلاً من أعظم الأبطال ، ما هو الاملُ ؟ أنْ تُفتَح القسطنطينية لا من الشرق ، بل من الغرب ، أي أن تُفتح أوروبا بأكملها بدءًا من فرنسا و انتهاءً بالقسطنطينية ، و تكرَّرت فيه مأساةُ يوم أحُد ، سنَّة الله في خلقه ، و لن تجد لسنة الله تبديلاً .
تعليقٌ لبعض المؤرِّخين الأجانب على معركة بلاط الشهداء :
الشيءُ المهمُّ جدًّا في هذه القصة تعليقٌ لبعض المؤرِّخين على هذه المعركة لبعض المؤرِّخين الأجانب : هزَّت أنباءُ فاجعة بلاط الشهداء نفوس المسلمين في كلِّ مكان هزّا عنيفاً ، و زُلزلت لهولها أفئدتُهم زلزالاً شديداً ، و عمَّ الحزنُ بسببها كلَّ مدينة و كلَّ قريةٍ و كلَّ بيتٍ ، و ما زال جرحُها المُمِضُّ ينزف من قلوبهم دمًا حتى اليوم ، و سيظلُّ ينزف ما ظلَّ على ظهر الأرض مسلم ، و لا تحسبن أنَّ هذا الجرح العميق الغائر قد أمضَّ أفئدة المسلمين وحدهم - اسمعوا الآن - و إنما شاركهم في ذلك طائفةٌ من عقلاء الفرنجة ، رأوا في انتصار أجدادهم على المسلمين في بواتييه مصيبةً كبرى ، الفرنجة رأوا في انتصار أجدادهم مصيبةً كبرى رُزِئت بها الإنسانية ، و خسارةً عظمى أصابت أوروبا في صميمها ، و نكبةً جُلَّى نُكِبت بها الحضارة، و إذا شئتَ أن تقف على رأي بعض هؤلاء في فجيعة بلاط الشهداء فاستمع إلى هنري دي شامبون مدير مجلَّة ريفي الفرنسية حيث قال - و اسمعوا بدقَّة ماذا قال هذا الإنسانُ -:" لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا لما وقعت بلادُنا في ظلمات القرون الوسطى- في القرون الوسطى مخازي ، وجهل ، وطغيانٌ ، و استغلال ، و كان الإنسان محتقرًا ، هذه ظلماتٌ – قال : لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على العرب المسلمين في فرنسا لما وقعت بلادُنا في ظلمات القرون الوسطى ، و لما أُصيبت بفظائعها ، و لا كابدت المذابح الأهلية التي دفع إليها التعصُّبُ الديني المذهبي ، نعم لولا ذلك الانتصارُ الوحشي على المسلمين في بواتييه لظلَّت إسبانيا تنعُم بسماحة الإسلام ، و لنجتْ من وصمة محاكم التفتيش ، و لما تأخَّر سيرُ المدنيةِ ثمانيةَ قرون ، و مهما اختلفت المشاعرُ و الآراءُ حول انتصارنا ذلك فنحن مدينون للمسلمين بكلِّ محامد حضارتنا ، نحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم و الفنِّ و الصناعة ، مدعُوُون لأن نعترف بأنهم كانوا مثال الكمال البشري ، في الوقت الذي كنا فيه مثالَ الهمجية ، و افتراء ما ندَّعيه اليوم من أن الزمان قد استدار و أن المسلمين وصلوا في هذا العصر إلى ما كنا عليه في العصور الوسطى " كلمةُ مؤرِّخٍ مُنصِف ، أي أن انتصار الفرنجة على المسلمين في معركة بلاط الشهداء كان سببَ تأخُّر أوروبا ثمانية قرون ، و كان سببَ المآسي التي وقعت في العصور الوسطى ، و كان سبب الحروب الاهلية التي ذاقتها أوروبا أو ذاقت من ويلاتها ، و على كلٍّ سنة الله لن تتغيَّر فإذا قاتلتَ في سبيل الله ثم طمعتَ في الدنيا تخلَّى اللهُ عنك ، في أُحُد و مع النبيِّ الكريم و النبيُّ عليه الصلاة و السَّلامُ كان بين ظهرانيهم ، لمَّا طمعوا في الغنائم تخلَّى اللهُ عنهم ، و في حُنَين قال تعالى:﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾[ سورة التوبة:25]
تخلى اللهُ عنهم ، و في اللحظة التي تُعجَب بها بقوَّتك يتخلَّى اللهُ عنك ، و في اللحظة التي تطمع بها في الدنيا يتخلَّى اللهُ عنك ، هذه سُنَن الله في خلقه .* * *