التَّرْغِيبُ فِيمَا يَقُولُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى المَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا دَخَلَهُمَا
قال الحافظ:
" كان الأليق بهذا الباب أن يكون عَقِيبَ ( المشي إلى المساجد )، لكن حصل ذهولٌ عن إملائه هناك، وفي كلّ خير ".
* الشّرح:
هذا الباب عقده المصنّف رحمه الله في بيان الأذكار الّتي تقال عند الخروج من البيت ودخوله، وعند دخول المسجد، وأتى بخمسة أحاديث صحيحة، وملخّص ما جاء في هذه الأحاديث ذكران عند دخول البيت، وذكر عند دخول المسجد. وفاته أن يذكر ما يقال عند الخروج من المسجد.
وقد بيّن المؤلّف رحمه الله أنّ حقّ هذا الباب أن يكون في "كتاب الصّلاة" بعد باب ( التّرغيب في الْمشْيِ إلى المساجِد سيَّما في الظُّلَم، وما جاء في فضلها )، ولكنّه ذهل عن ذكره هناك.
* الحديث الأوّل:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ:" بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ "، يُقَالُ لَهُ: حَسْبُكَ، هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ )).
[رواه التّرمذي، وحسّنه، والنّسائي، وابن حبّان في " صحيحه "]، ورواه أبو داود، ولفظه: قال:
(( إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ:" بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ "، يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَيَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ ؟ )).
* الشّرح:
ما يقال عند الخروج من البيت ذِكْران:
أحدهما: ( بسم الله توكّلت على الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ).
- ( بسم الله ) أي خرجت مصاحِباً لاسم الله عزّ وجلّ مستعينا بذكره، فتكون الباء للمصاحبة والاستعانة. أي: أستصحب الله تعالى وأستعين به في جميع شؤوني الّتي أخرج من أجلها، وجَعْلُ الخروج والمَمشَى لله ومع الله هو حقيقة العبادة.
وذلك معنى قوله عزّ وجلّ:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
- ( توكّلت على الله ) أي في جميع أموري أن يكفينِي إيّاها. وبذلك يكون جمع بين العبادة والتوكّل، وهو مقصود قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: من الآية123].
- ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ): فلا حائل بين معاصيه ولا حائل من المصائب إلاّ بالاعتصام بالله. ولا قوّة على الطّاعة، ولا قوّة على جلب منفعة إلاّ بالله.
لذلك كان جوابُ الْمَلَك مطابقا للدّعاء إذ قال صلّى الله عليه وسلّم:
- ( يقال له ): قال في " تحفة الأحوذي " أي: يناديه ملك: يا عبد الله.
- ( هُدِيتَ ) أي: هداك الله تعالى في جعلك خروجك باسم الله، وهُدِيتَ إلى الاستعانة بالله والتوكّل عليه، وهديت في ممشاك إلى كلّ برّ.
- ( كُفِيتَ ) أي: كفاك الله كلّ أمورك، فهو مقابل: ( توكّلت على الله ).
- ( وَوُقِيتَ ) من الوقاية، أي: حفظك الله من شرّ أعدائك، ومن كلّ سوء. وهو مقابل ( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ).
ويؤيّد أنّ قول الملك جاء مطابقا للذّكر ما أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه - وتشهد له أحاديث الباب - أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ دَارِهِ، كَانَ مَعَهُ مَلَكَانِ مُوَكَّلَانِ بِهِ، فَإِذَا قَالَ: بِسْمِ اللهِ، قَالَا: هُدِيتَ، وَإِذَا قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، قَالَا: وُقِيتَ. وَإِذَا قَالَ: تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، قَالَا: كُفِيتَ )).
- ( وتنحّى عنه الشّيطان ) أي تبعّد، فوقت الخروج من البيت من الأوقات الّتي يسعى الشّيطان لإضلال ابن آدم فيها؛ لذلك شرع الله تعالى ذكر اسم الله في كلّ موطن، وبخاصّة المواطن الّتي يحضرها الشّيطان، منها:
حال الجماع: فقد روى البخاري ومسلم عنْ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( أَمَا إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ وَقَالَ:" بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا " فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ ))،
وعند الأكل كما سيأتي.
وعند كشف العورة، ففي سنن التّرمذي وابن ماجه عنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْخَلَاءَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ )).
فلا شيء يطرد الشّيطان مثل قول: ( بسم الله )، وهي أشدّ عليه من كلّ كلمات السبّ والشّتم، فقد روى أبو داود عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ رَجُلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَعَثَرَتْ دَابَّةٌ، فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ ! فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَعَاظَمَ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ، وَيَقُولُ: بِقُوَّتِي ! وَلَكِنْ قُلْ ( بِسْمِ اللَّهِ ) فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ تَصَاغَرَ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ )).
وغير ذلك، وما يجمع ذلك كلّه ما رواه التّرمذي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: " بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ )).
وَكَانَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ قَدْ أَصَابَهُ طَرَفُ فَالِجٍ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبَانُ: مَا تَنْظُرُ ؟ أَمَا إِنَّ الْحَدِيثَ كَمَا حَدَّثْتُكَ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقُلْهُ يَوْمَئِذٍ لِيُمْضِيَ اللَّهُ عَلَيَّ قَدَرَهُ.
- وذكر المصنّف رحمه الله زيادةً عند أبي داود في روايته: ( فيقُولُ شيطَانٌ آخرُ: كيفَ لكَ برجُلٍ قدْ هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ ؟!) أي: كيف يمكنك إضلال وإيذاء رجل هداه الله، وكفاه الله، ووقاه الله.
والذّكر الثّاني: ما رواه أبو داود عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ )).
وإنّما لم يذكره المصنّف رحمه الله؛ لأنّه ليس على شرطه، أي: ليس صريحا في التّرغيب بذكر الثّواب.
ومعناه: ( من أن أزلّ ) أي عن الحقّ، والزلّة هي ذنب من غير قصد، تشبيها بزلّة الرّجل ( أو أَضِلَّ ) عن الهدى، ( أو أَظلِم ) أحدا (أو أُظلَم) من أحد ( أو أَجهَل ) والجهل هنا هو المقابل للحلم، وهو الطّيش والسّفه، فيخطئَ في حقوق النّاس والمعاشرة والمخالطة مع الأصحاب، أو يفعل بالنّاس فعل الجهال من الإيذاء وإيصال الضّرر إليهم ( أو يُجهَل عليّ ) أي يفعل الناس بي أفعالَ الجهّال من إيصال الضّرر إليّ.
قال الطّيبي رحمه الله:" إنّ الإنسان إذا خرج من منزله لا بدّ أن يعاشر النّاس ويزاول الأمر، فيخاف أن يعدل عن الصّراط المستقيم، فإمّا أن يكون في أمر الدّين، فلا يخلو من أن يضلّ أو يضلّ، وإمّا أن يكون في أمر الدّنيا فإمّا بسبب جريان المعاملة معهم بأن يظلم أو يظلم، وإمّا بسبب الاختلاط والمصاحبة، فإمّا أن يجهل أو يجهل، فاستعيذ من هذه الأحوال كلّها بلفظ سلِسٍ موجَزٍ ..." اهـ.
* قوله رحمه الله:" رواه التّرمذي، وحسّنه، والنّسائي ..." الخ: الصّواب أنّ هذا ليس لفظ التّرمذي، وإنّما هو لفظ الإمام النّسائي في "السّنن الكبرى"، والضّياء في "الأحاديث المختارة".