تقويم اللسان والبنان
نجيب جلواح
اختصّتِ اللّغةُ العربيّةُ بخصائصَ عديدةٍ، ولها مِيزاتٌ كثيرةٌ، وإنّ مِن أعظمِ ما اختصّـتْ به أنّ اللهَ تعالى أنزلَ بها خيرَ كتبِهِ وأحسنَ شرائعِ دينِهِ، فهي لغةُ القرآنِ الكريمِ، قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾[يوسف:2].
فارتباطُ الإسلامِ باللّغةِ العربيّةِ ارتباطٌ مَتينٌ، لذا لا يمكنُ فصْلُ العربيّةِ عن الدّينِ؛ لأنّ القرآنَ الكريمَ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، وسنّةُ نبيِّ الإسلامِ ـ عليهِ الصّلاةُ و السّلامُ ـ لا تُفْهَمُ ولا يُدركُ ما فيها مِن أحكامٍ إلاّ باللّغةِ العربيّةِ.
والإلمامُ باللّغةِ العربيّةِ وإتقانها، والتّعمُّق في معرفةِ معانيها، والتّبحُّر في إدراكِ مبانيها وأساليبها مِن أبرزِ أسبابِ صِحّةِ فهْمِ المسلمِ لدينِ اللهِ تعالى؛ وذلك لأنّ ممّا يُتوصّلُ به إلى إدراكِ معاني النّصوصِ فَهْمَ العِباراتِ على ما وُضِعتْ له في أصلِها اللُّغويِّ لا بحسبِ ما يُمليهِ العقلُ وحدَهُ، و لذلك كانتْ معرفةُ اللُّغةِ العربيّةِ مِن شروطِ الاجتهادِ، وكان الجهلُ بها سببًا للْهَلَكَةِ.
وإنَّ مِن العلومِ النّافعةِ، المتعدّيةِ إلى غيرها: عِلْمَ النّحْوِ، فهو أُسُّ العُلومِ الشّرعيّةِ، وأصلٌ مِن أُصولها، فَبِهِ تُعرفُ مدارِكُ الأحكامِ، وبِهِ يَستقيمُ اللّسانُ والبَنانُ ـ نُطقًا وخَطًّا ـ، لذا يَنبغي لمن يريدُ التّفقُّهَ في الدّيـنِ، أنْ يُقدِّمَ على ذلك تعلُّـمَ العلومِ العربيّةِ وعلمِ النّحوِ.
وللهِ درُّ إسحاق بن خلف البهراني القائلِ:
النَّحوُ يُصلِحُ مِنَ لِسانِ الألْكَنِ والـمرءُ تُكرِمُـهُ إذا لم يَلْحَـنِ
والنّحوُ مِـثـلُ الـمِلـحِ إنْ ألقيتَـهُ في كلِّ ضدٍّ مِن طعامِكَ يحسُنِ
وإذا طـلـبـتَ مِنَ العُلومِ أجــلَّهـا فأجلُّهـا منها مُــقيـمُ الألسُنِ(1)
وقدْ «هجمَ الفسادُ على اللّسانِ، وخالطتِ الإساءةُ الإحسانَ، ودخلتْ لغةَ العربِ، فلم تَزلْ كلَّ يومٍ تنهدمُ أركانُهـا، وتموتُ فُرسانُهَا، حتّى استُبيحَ حريمُهَا، وهَجُنَ(2)صَميمُهَا(3)، وعفتْ آثارُهَا، وطَفِئَتْ أنوارُهَا، وصارَ كثيرٌ مِن النّاسِ يُخطِئُونَ وهم يَحسبونَ أنّهم مُصيبونَ، وباتتِ الحاجةُ ماسّةً إلى تحفيزِ الهِممِ إلى تقويمِ اللّسانِ، وإصلاحِ اعوجاجِـهِ بِطلبِ العربيّةِ، وفَهمِهَا وإتقانِهَا»(4).
إنَّنا نشكُو في هذه الأيّامِ ـ وأكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضَى ـ، منَ الضّعفِ العامِّ في اللّغةِ العربيّةِ، ونتألّمُ ألَمًا شديدًا منَ الوضعِ المؤسفِ الّذي وصلتْ إليه لغتُنا وعلى أيدي أبنائِها، ونتوجَّسُ خِيفةً من خطرِ هذا الضّعفِ الذي يزدادُ مـع مرورِ الأيّامِ، ولو استمرَّ هذا الضّعفُ في اللّغةِ العربيّةِ مِن غيرِ عِلاجٍ، لأدّى إلى استفحالِه، ثمّ ينتهي الأمرُ بموتِ اللّغةِ والقضاءِ عليها.
وإذا أُصِبنا بضعفٍ في لغتنا، ضعُفَتْ صِلتُنا بديننا، لأنّنا نكون ـ حينئذ ـ قد فقَدنا أداةَ الاغترافِ مِن معينِهِ الصّافي، ولهذا فإنَّ تقصيرنا في حقِّ هذه اللّغةِ تفريطٌ منّا، نُسألُ عنه، ونُدانُ به.
نَعَم، إنّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ جدًّا أنْ ترى ـ في هذا الزّمانِ ـ بعضَ طلبةِ العلمِ حينمـا يتكلّمُ أو يكتبُ، يخطئ ويلحن إلى درجة أن تحسب أنَّه في أوَّلِ الدِّراسةِ، مع أنّهُ قد يكونُ ممّن حازَ الشّهاداتِ العاليةَ، كما قد تَسمعُ مِن بعضِهم خِطاباً في موضوعٍ ذِي أهميّةٍ، لكنْ يُزهّدُكَ فيه، ويَصرِفُكَ عن سماعهِ والاستفادةِ منه ما شوّهه مِـنْ لحنٍ(5) وتصحِيفٍ(6)، فتسمعُه يرفعُ ما حقُّهُ النّصبُ، ويجرُّ ما حقُّهُ الرّفعُ، فتنقلبُ الأُمورُ على السّامعِ، ويَفهمُ مِن كلامِهِ خِلافَ مُرادِه؛ و هذه ـ واللهِ ـ مِحنةٌ. لهذا يَتعيَّنُ على الطّلبةِ أنْ يَتعلّمُوا النّحـوَ، وأن يُمَرِّنُوا ألسنتَهُمْ وأقلامَهُمْ عليه، حتّى لا تَسُوءَ سُمعتُهمْ بين النّاس، ويَسقطَ قدرُهم، ويُوصَفوا بالجهلِ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ رحمه الله: «اللّحنُ في الكلامِ أقبحُ مِن آثارِ الجُدَرِيِّ في الوجهِ»(7).
وقال علي بن بسام:
ولا تَعْدُ إصلاحَ اللّسانِ فإنّهُ
يُـخـبِّـــر عـمّــا عـنـــده ويُـبـيــنُ
ويُعجِبُني زَيُّ الفَتى وجمـــالُه
فيَسقُطُ مِن عَيْني ساعةَ يَلْحَنُ(8)
واللّحنُ ضررُهُ وَخِيمٌ، وخَطْبُهُ جسيمٌ؛ فقد يؤدِّي بِصاحبِه إلى الكذبِ والتَّقوُّل على اللهِ تعالَى ورسولِه ﷺ؛ وكفَى بذلك جُرماً عظيماً وإثماً مُبيناً؛ روى أبُو حاتمٍ محمّدُ بنُ حِبّانَ البُسْتيّ عن الأصْمَعيّ أنّه قالَ: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ علـى طالبِ العلمِ إذا لم يَعرفِ النّحوَ أنْ يَدخُلَ فيما قالَ النّبيُّ ﷺ: «مَن كذبَ عليَّ متعمّداً فليتبوّأْ مقعدَهُ منَ النّارِ»، لأنّهُ ـ عليه الصّلاةُ والسّلامُ ـ لم يكنْ لحّاناً، ولم يلحَنْ في حديثِهِ، فمهْمَا رَويتَ عنه ولحنتَ فيه، فقد كَذبتَ عليه»(9).
وصاحبُ اللَّحْنِ يُدخِلُ في الكتابِ والسُّنةِ ما ليسَ فيهما، ويُخرِجُ منهما ما هو فيهما، بخلافِ الفصيحِ، فإنّه يقرأُ القرآنَ دون لحنٍ، فيُقِيمُ حُروفَهُ، لذا كانَ أفضلَ حـالاً وأرْفعَ شأناً؛ فعنْ سَالمِ ابنِ قُتَيْبَةَ قـال: «كنتُ عندَ ابنِ هُبَيْرَةَ الأكبرِ فجرَى الحديثُ حتّى جرَى ذِكرُ العربيّةِ فقالَ: واللهِ ما استوَى رَجُلانِ دينهُما واحدٌ، وحَسَبُهما واحدٌ، ومُروءتُهما واحدةٌ، أحدُهما يَلْحنُ والآخرُ لا يَلْحنُ، إنّ أفضلَهُما في الدّنيا والآخرةِ الذي لا يَلْحـنُ، قُلتُ: أصلحَ اللهُ الأميرَ، هذا أفضلُ في الدُّنيا لِفضلِ فصاحتِهِ وعَربيّتِهِ، أرأيتَ الآخرةَ ما بالُهُ فُضِّل فيها؟ قـالَ: إنّهُ يقـرأُ كتابَ اللهِ على ما أنزلَهُ اللهُ، وإنّ الذي يَلْحنُ يحمِلُهُ لحنُهُ على أنْ يُدخِلَ في كتابِ اللهِ تعالى ما ليسَ فيه، ويُخرِجَ منه ما هو فيهِ، قالَ: قلتُ: صـدقَ الأميرُ وبرَّ»(10).
وأكثرُ مَن ضلَّ مِن أصحابِ الفِرقِ المنحرفةِ، ومَن زاغَ من المبتدعةِ وأهلِ الأهواءِ، إنّما أُتوا من جهلِهـم باللّغةِ العربيّةِ؛ ففسَّروا النّصوصَ تبعاً لأهوائِهم، وفهمُوا القرآنَ على غيرِ مُراد الله تعالى، فضلُّوا وأضلُّوا؛ قال الزُّهريّ: «إنّما أخطأَ النّاسُ في كثيرٍ من تأويلِ القرآنِ لجهلِهم بلغةِ العربِ»، وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: «سمعتُ الأصمعيَّ يقولُ: سمعتُ الخليلَ ابنَ أحمدَ يقولُ: سمعتُ أبَا أيّوبٍ السَّخْتِيَانيّ يقولُ: «عامّةُ مَن تزندقَ بالعراقِ لقلّةِ علمِهم بالعربيّة»(11).
وقالَ الشّاطبيّ رحمه الله ـ في معرضِ حديثِه عن استدلالاتِ أهـلِ البدعِ ـ: «ومنها: تخرّصُهـم على الكلامِ في القرآنِ والسّنةِ العَرَبِيَيْنِ مع العُزوفِ عن علمِ العربيّةِ، الذي يُفهمُ به عن اللهِ ورسولِه، فيفتاتونَ على الشّريعةِ بما فهمُوا، و يدينونَ به، ويُخالفُونَ الرّاسخينَ في العلمِ»(12).
أمّا علماءُ أهلِ السّنةِ فقد أدركُوا علاقةَ الإسلامِ المتينةَ باللّغة العربيّة، فأتقنوها غايةَ الإتقانِ، فكان ذلك خيرَ وسيلـةٍ للفهمِ الصّحيحِ لنُصوصِ الكتابِ والسنّةِ، وخيرَ عونٍ لهم على استنباطِ الأحكام الشّرعيّةِ.
ولقدْ كانَ سلفُنا الصّالحُ يحرِصونَ على تقويمِ ألسنتِهم، و يجتنبونَ اللّحنَ في كلامِهم، ويعدّون ذلك عَيْباً؛ لذا أمرُوا بتعلُّمِ العربيّة والتّفقّه فيها، للبُعد عن معرّةِ الخطأ، وشَيْنِ الخطلِ، ومِن التّشبُّهِ بهم اجتنابُ اللَّحنِ؛ لأنَّهم ما كانوا يَلحَنونَ في نُطقِهم، ولا يُخطِئون في خطِّهم.
ولمّا كانتِ اللّغةُ العربيّةُ بهذه المثابةِ وفي هذه المنزلةِ، وأنّها طريقٌ إلى فهمِ نُصوصِ الوحيَيْنِ، ووسيلةٌ لحفظِ الشّريعةِ، ذهبَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلمِ إلى القولِ بوجوبِ تعلُّمِها، وحُسنِ استعمالِها، واعتبرُوا ذلكَ منَ الدِّينِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ رحمه الله: «واعلمْ أنَّ اعتيادَ اللّغةِ يُؤثّرُ في العقلِ والخُلُقِ والدّينِ تَأثيراً قويّاً بيِّناً، ويُؤثّـرُ أيضاً في مُشابهةِ صدْرِ هذه الأمّةِ مِن الصّحابةِ والتّابعينَ، ومُشابهتُهمْ تزيدُ العقلَ والدِّينَ والخُلُقَ، وأيضاً فإنّ نفسَ اللّغـةِ العربيّةِ مِن الدّينِ، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهمَ الكتابِ والسّنةِ فرضٌ، ولا يُفهمُ إلاّ بفهمِ اللُّغةِ العربيّةِ، و ما لا يتمُّ الواجبُ إلاّ به فهوَ واجبٌ، ثمّ منها ما هو واجبٌ على الأعيانِ، ومنها ما هو واجبٌ على الكِفايـةِ، وهذا معنى ما رواهُ أبو بَكرِ بنِ أبي شَيْبَةَ(13) حدّثنَا عِيسى ابنُ يُونُسَ عن ثَوْرٍ عنْ عُمَرَ بنِ زَيد قالَ: «كتبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلى أبي مُوسى الأشعريّ رضي الله عنه: أمّا بعدُ، فتفقّهُوا في السّنةِ، وتفقّهُوا في العربيّةِ، وأَعْرِبوا القرآنَ فإنّه عربيّ».
وفـي حديثٍ آخرَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أنّه قالَ: «تعلّمُوا العربيّةَ فإنّها مِن دينِكمْ، وتعلّمُوا الفرائضَ فإنّها مِن دينِكمْ».
وهذا الذي أَمَرَ به عُمَرُ رضي الله عنه مِن فِقهِ العربيّةِ، وفِقهُ الشّريعةِ يَجمعُ ما يُحتاجُ إليهِ، لأنَّ الدّينَ فيه فِقهُ أقوالٍ وأعمالٍ، ففِقهُ العربيّةِ هو الطّريقُ إلى فِقهِ أقوالِهِ، وفِقهُ السّنةِ هو الطّريقُ إلى فِقهِ أعمالِهِ»(14).