محمود احمد الرفاعى تاريخ التسجيل : 21/01/2010
| موضوع: جعفر بن أبي طالب الأحد يوليو 18, 2010 10:36 am | |
| جعفر بن أبي طالب - أشبهت خلقي ، و خلقي انظروا جلال شبابه.. انظروا نضارة اهابه.. انظروا أناته وحلمه، حدبه، وبرّه، تواضعه وتقاه.. انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر.. انظروا طهره وعفته.. انظروا صدقه وأمانته... انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن، والفضيلة، والعظمة، ثم لا تعجبوا، فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا، وخلقا.. أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ أبي المساكين.. أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي الجناحين.. أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد، جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ ضمير الحياة..!! ** أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما، آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين.. وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس.. وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة.. فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة الى الحبشة، خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا، رزقا خلالها بأولادهما الثلاثة محمد، وعبد الله، وعوف... ** وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق، الموفق باسم الاسلام ورسوله.. ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم، بذكاء القلب، واشراق العقل، وفطنة النفس، وفصاحة اللسان.. ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها.. فان يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحيشة، لن يقلّ روعة ولا بهاء، ولا مجدا.. لقد كان يوما فذّا، ومشهدا عجبا... ** وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها، ولم يذهب من غيظها، ولم يطامن كم أحقادها، هجرة المسلمين الى الحبشة، بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم، ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة، فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها، ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول، وينشرح له صدر الاسلام.. هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة، ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها لائذين ومستجيرين... وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وكانا لم يسلما بعد... ** كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة، رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية، بعيدة عن الانحراف، نائية عن التعصب والانغلاق... وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة، تنشر عبيرها في كل مكان تبلغه.. من أجل هذا، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه.. ومن أجل هذا، خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة، وكبار رجال الكنيسة هناك، وأوصى زعماء قريش مبعوثيها ألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أول ا، وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما ، ليكونوا لهم عونا عند النجاشي . وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة، وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة، ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه.. ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين، ويستنجدان بهم لحمل النجاشي، ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها. ** وفي وقار مهيب، وتواضع جليل، جلس النجاشي على كرسيه العالي، تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية، وجلس أمامه في البهو الفسيح، المسلمون المهاجرون، تغشاهم سكينة الله، وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع الحاشد الكبير: " أيها الملك.. انه قد ضوى لك الى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، بل جاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، أعمامهم، وعشائرهم، لتردّهم اليهم"... وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين، ملقيا عليهم سؤاله: " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟ ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم، وقبل مجيئهم الى هذا الاجتماع.. نهض جعفر في تؤدة وجلال، وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال: " يا أيها الملك.. كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله الينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء.. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فغدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا الى عبادة الأوثان، والى ما كنّا عليه من الخبائث.. فلما قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك"... ** ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر، فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة، والتفت الى جعفر وساله: " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟ قال جعفر: نعم.. قال النجاشي: فاقرأه علي.. ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة مريم، في أداء عذب، وخشوع فبكى النجاشي، وبكى معه أساقفته جميعا.. ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة، التفت الى مبعوثي قريش، وقال: " ان هذا، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.. انطلقا فلا والله، لا أسلمهم اليكما"..!! ** انفضّ الجميع، وقد نصر الله عباده وآرهم، في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة.. لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة، لا يتجرّع الهزيمة، ولا يذعن لليأس.. وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى نزلهما، حتى ذهب يفكّر ويدبّر، وقال لزميله: " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا، ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم".. وأجابه صاحبه: " لا تفعل، فان لهم أرحاما، وان كانوا قد خالفونا".. قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، كبقية العباد".. هذه اذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة، ويضعهم بين شقّي الرحى، فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله، حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!! ** وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك، وقال له عمرو: " أيها الملك: انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما". واضطرب الأساقفة.. واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة.. ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح.. وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة، فجلسوا يتشاورون.. ثم تفقوا على أن يقولوا الحق الذي سمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام، لايحيدون عنه قيد شعرة، وليكن ما يكن..!! وانعقد الاجتماع من جديد، وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر: "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟ ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال: " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه".. فهتف النجاشي نصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه.. لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير.. ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين: " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي، ومن سبّكم أو آذاكم، فعليه غرم ما يفعل".. ثم التفت صوب حاشيته، وقال وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش: " ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها... فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه"...!! وخرج مبعوثا قريش مخذولين، حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها... وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة، لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم... ** كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين.. وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة، وسعادة وبشرا.. وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..". وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى مكة، حيث اعتمروا عمرة القضاء، وعادوا الى المدينة، وقد اكتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضوا نحبهم شهداء أبرار.. وطار فؤداه شوقا الى الجنة، وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!! ** وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها، تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف، وللمسير.. ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله، واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله.. وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا.. كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة، انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه.. وخرج الجيش وخرج جعفر معه.. والتقى الجمعان في يوم رهيب.. وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذا احسّ في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!! وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة... وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، و{اى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من األأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..!! وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعثار، وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج: يا حبّذا الجنة واقترابها طيّبة، وبارد شرابها والروم روم، قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها عليّ اذا لاقيتها ضرابها وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش لجب.. وأحاطوا به في اصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة.. وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه.. في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ.. وحين تكّومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة، ومضى بها الى مصير عظيم..!! ** وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!! وهكذا لقي الكبير المتعال، مضمّخا بفدائيته، مدثرا ببطولاته.. وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة، وبمصير جعفر، فاستودعه الله، وبكى.. وقام الى بيت ابن عمّه، ودعا بأطفاله وبنيه، فشمّمهم، وقبّلهم، وذرفت عيناه.. ثم عاد الى مجلسه، وأصحابه حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه: غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم الى الموت ميمون النقيبة أزهر أغرّ كضوء البدر من آل هاشم أبيّ اذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مال غير موسد لمعترك فيه القنا يتكسّر فصار مع المستشهدين ثوابه جنان، ومتلف الحدائق أخضر وكنّا نرى في جعفر من محمد وفاء وأمرا حازما حين يأمر فما زال في الاسلام من آل هاشم دعائم عز لا يزلن ومفخر وينهض بعد حسّان، كعب بن مالك، فيرسل شعره الجزل : وجدا على النفر الذين تتابعوا يوما بمؤتة، أسندوا لم ينقلوا صلى الاله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للاله نفوسهم حذر الردى، ومخافة أن ينكلوا اذ يهتدون بجعفر ولواؤه قدّام أولهم، فنعم الأول حتى تفرّجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدّل فتغير القمر المنير لفقده والشمس قد كسفت، وكادت تأفل وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم، فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين.. يقول أبو هريرة: " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"... أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته.. يقول عبدالله بن عمر: " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة، فالتمسناه، فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!! بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!! ومع هذا، فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟ أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم، حيث نزل في رحابه مكانا عليّا.. انه هنالك في جنان الخلد، يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح.. وان شئتم، فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!! [[[[[[[[[[[[[[[[[[[[
قيس بن سعد بن عبادة - أدهى العرب، لولا الاسلام كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم.. وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا".. ذلك أنه كان أجرد، ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم. فمن هذا الفتى الذي ودّ قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه، وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية، وزعامته المتفوقة..؟؟ انه قيس بن سعد بن عبادة. من أجود بيوت لعرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: " ان الجود شيمة أهل هذا البيت".. وانه الداهية الذي يتفجر حيلة، ومهارة، وذكاء، والذي قال عن نفسه وهو صادق: " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!! ذلك أنه حادّ الذكاء، واسع الحيلة، متوقّد الذهن. ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم، بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر، ثم يذكر قول الله سبحانه: ( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله).. فيهبّ من فوره مستنكرا، ومستغفرا، ولسان حاله يقول: " والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا، فلن يغلبنا بذكائه، بل بورعنا وتقوانا"..!! ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم، ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة، زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء.. وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه الى الرسول قائلا: " هذا خادمك يا رسول الله".. ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمائر الصلاح.. فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما.. يقول أنس صاحب رسول الله: " كان قيس بن سعد من النبي، بمكان صاحب الشرطة من الأمير".. وحين كان قيس، قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن، ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم، علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه، لا بدهائه، ولقد كان ابنا بارّا للاسلام، ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا، ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا، يأخذه الحنين الى دهائه المقيد، فيقول عبارته المأثورة: " لولا الاسلام، لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!! ** ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس، فهو من بيت عريق في الجود والسخاء، كان لأسرة قيس، على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ، مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم، واللحم، فليأت أطم دليم بن حارثة"... ودليم بن حارثة، هو الجد الثاني لقيس.. ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح.. تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس ***ائه وقالا: " لو تركنا هذا الفتى لسخائه، لأهلك مال أبيه".. وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس، فصاح قائلا: " من يعذرني من أبي قحافة، وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!! وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا.. وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال: " انا لا نعود في شيء أعطيناه"..!! ** وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف، وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة.. أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان، لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود، فاعلم أنها ليست شجاعة، انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش... ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام.. لكأنه المعنيّ بقول الشاعر: اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ.. وواصلت تألقها، في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى.. والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والماوجهة، لا بالمناورة والمراوغة، تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه.. ومنذ ألقى قيس وراء ظهره، قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة، وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة، وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات... ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده.. هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة، انما يكوّنه الصدق مع النفس، والاخلاص للحق... وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية، نرى قيسا يخلوبنفسه، ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه، حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى جواره شامخا، قويا مستبسلا.. وفي معارك صفّين، والجمل، ونهروان، كان قيس أحد أبطالها المستبسلين.. كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح: هذا اللواء الذي كنا نخفّ به مع النبي وجبريل لنا مدد ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته ألا يكون له من غيرهم أحد ولقد ولاه الامام عليّ حكم مصر.. وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر... من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد، حتى لو انتصر هو على الامام عليّ انتصارا حاسما.. وهكذا راح بكل وسائله الماكرة، وحيله التي لا تحجم عن أمر، يدسّ عند علي ضدّ قيس، حتى استدعاه الامام منمصر.. وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا، فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه، لكي يوغر صدره ضدّ الامام علي، ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ، والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة.. وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية، وما الامارة، وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق، فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة.. ** وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها، بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن.. لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه، هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا.. وحين يضطرّهم معاوية لامشاق السيوف، ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي.. ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها، ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه.. هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد، فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب، فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير، وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا: " ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا، وان شئتم أخذت لكم أمانا:.. واختار جنوده الأمر الثاني، فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة... وفي المدينة المنوّرة، عام تسع وخمسين، مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه.. مات الرجل الذي كان يقول: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول: " المكر والخديعة في النار، لكنت من أمكر هذه الأمة".. أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة، وعهد وميثاق... __________________ زيد بن الخطاب - صقر يوم اليمامة جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما، وحوله جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري، أطرق الرسول لحظات، ثم وجّه الحديث لمن حوله قائلا: " ان فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من جبل أحد".. وظل الخوف بل لرعب من الفتنة في الدين، يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء الختام.. ولكن جميع الذين وجّه اليهم الحديث يومئذ ختم لهم بخير، وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله. وما بقي منهم حيّا سوى أبي هريرة والرّجّال لن عنفوة. ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن تصيبه تلك النبوءة. ولم يرقأ له جفن، وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب الحظ التعس. فارتدّ الرّجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب، وشهد له بالنبوّة. هنالك استبان الذي تنبأ له الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير.. والرّجّال بن عنفوة هذا، ذهب ذات يوم الى الرسول مبايعا ومسلما، ولما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه.. ولم يرجع الى المدينة الا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الدّيق أن يكون مبعوثه اليهم يثبّتهم على الاسلام، فأذن له الخليفة.. وتوجّه الرّجّال الى أهل اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون، فحدّثته نفسه الغتدرة أن يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية، فترك الاسلام، وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود. وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته. ذلك، لأنه استغلّ اسلامه السابق، والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول، وحفظه لآيات كثيرة من القرآن، وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة. لقد سار بين الناس يقول لهم: انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر".. وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي بعده، هو مسيلمة..!! ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالاسلام وبالرسول. وكانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا، والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها. وكان أكثر المسلمين تغيّظا، وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!! زيد بن الخطّاب..؟ لا بد أنكم عرفتموه.. انه أخو عمر بن الخطّاب.. أجل أخوه الأكبر، والأسبق.. جاء الحياة قبل عمر، فكان أكبر منه سنا.. وسبقه الى الاسلام.. كما سبقه الى الشهادة في سبيل الله.. وكان زيد بطلا باهر البطولة.. وكان العمل الصامت. الممعن في الصمت جوهر بطولته. وكان ايمانه بالله وبرسوله وبدينه ايمانا وثيقا، ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في غزاة. وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن الشهادة..! يوم أحد، حين حمي القتال بين المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب.. وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب، وقد سقط درعه عنه، وأصبح أدنى منالا للأعداء، فصاح به عمر. " خذ درعي يا زيد فقاتل بها".. فأجابه زيد: " اني أريد من الشهادة ما تريد يا عمر"..!!! وظل يقاتل بغير درع في فدائية باهرة، واستبسال عظيم. ** قلنا انه رضي الله عنه، كان يتحرّق شوقا للقاء الرّجّال متمنيّا أن يكون الاجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في رأي زيد، لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا، وصوليا. لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن وصولية حقيرة، ونفاق يغيض هزيل. وزيد في بغضه النفاق والكذب، كأخيه عمر تماما..! كلاهما لا يثير اشمئزازه، ولا يستجسش بغضاءه، مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة، والأغراض الدنيئة. ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة، لعب الرّجّال دوره الآثم، فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة ارباء فاحشا، وهو بهذا يقدّم بيديه الى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة.. أضلّها أولا، وأهلكها أخيرا.. وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه، وزخرفها له هواه، ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو أكبر من خطرا، وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة. ** وبدأ يوم اليمامة مكهرّا شاحبا. وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام، ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟ الى زيد بن الخطّاب. وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا.. ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون. ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في اخوانه: " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!! ونزل من فوق الربوة، عاضّا على أضراسه، زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس. وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثا عن الرّجّال حتى أبصره.. وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت.. وأخيرا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا، وكذبا، وخسّة.. وبسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف.. لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!! وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة.. وغدا سيقط المحكم، وبعد غد مسيلمة..!! هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا المدار في صفوف مسيلمة.. أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد، حاملا سيفه، وغير عابئ بجراحه.. حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلو، وليشهدوا النصر في روعة ختامه.. ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحل أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!! ** رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا لربّه، شاكرا نعمته.. ثم عاد الى سيفه والى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة.. ولقد أخذت المعركة تمضي لالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع.. هنالك وقد رأى زيد رياح النر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام، فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا.. وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا،وعزمه اصرارا.. وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم.. وسقط البطل شهيدا.. بل قولوا: صعد شهيدا.. صعد عظيما، ممجّدا، سعيدا.. وعاد جيش الاسلام الى المدينة ظافرا.. وبينما كان عمر، يستقبل مع الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد.. وكان زيد طويل بائن الطول، ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا.. ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد.. وقال عمر: " رحم الله زيدا.. سبقني الى الحسنيين.. أسلم قبلي.. واستشهد قبلي". ** وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم، فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة.. ودائما كان يقول: " ما هبّت الصبا، الا وجدت منها ريح زيد". أجل.. ان الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة.. ولكن، اذا اذن أمير المؤمنين، أضفت لعبارته الجليلة هذه، كلمات تكتمل معها جوانب الاطار. تلك هي: " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!" ** بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليهوسلم.. بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا، واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!! [[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[
---------- اضافة مشاركة في 12:26 AM ---------- المشاركة السابقة كانت في تمام الساعة الــ 12:25 AM ----------
خبيب بن عدي - بطل .. فوق الصليب ..!! والآن.. افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال.. وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان.. تعالوا، خفاقا وثقالا.. تعاولوا مسرعين، وخاشعين.. وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!! تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟ أجل كانت دروسا.. وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير.. ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية.. أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير.. الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد.. الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد.. وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء.. تعالوا بغروركم..! تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء.. وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!! أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟ انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الانسان...! هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الاستاذ.. اسمه خبيب بن عديّ. احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا. واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل انسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل جنس، وفي كل زمان..!! ** انه من أوس المدينة وأنصارها. تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليههم، وآمن بالله رب العالمين. كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير. كان كما وصفه حسّان بن ثابت: صقرا توسّط في الأنصار منصبه سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما. وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل. وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!! ** وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد.. وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين.. هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين.. ** وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت. وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم.. وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه: " انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم".. وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون.. وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل.. واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار.. ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء. والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. وانتظروا بما يأمر.. فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك.. اللهم أخبر عنا نبيك".. وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا.. ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا. فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه.. واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها.. ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه.. واستشهد حيث أراد.. وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!! وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام. وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها.. ودوّى في الآذان اسم خبيب.. وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد. وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم. وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!! وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا.. ** أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين. وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول. كان الله معه.. وكان هو مع الله.. كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..! دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا.. " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه.. وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة.. ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!! أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت: ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا.. قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).. ** وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه. ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته. وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!! أجل، كان ايما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا.. كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه.. واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه.. وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه.. وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات... وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي.. ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم: " والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!! ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال: " اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا".. ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب.. ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم. وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!! لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه. وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه. وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له: " أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟ وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه: " والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة".. نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!! ** كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية.. وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة.. ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى. وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا.. لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!! مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة. وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية.. وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!! كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا: " اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا".. واستجاب الله دعاءه.. فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة.. وتراءى له جثمان أحدهم معلقا.. ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، والزبير بن العوّام.. فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا. وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب. ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب. ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!! __________________ عمير بن سعد - نسيج وحده أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟ ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها.. لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا، ورأينا من زهده وترفعه، ومن ورعه العجب كله.. وها نحن أولاء، نلتقي على هذه الصفات بأخ له، بل توأم، في الورع وفي الزهد، وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!! انه عمير بن سعد.. كان المسلمون يلقبونه نسيج وحده!! وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله، وبما معهم من فضل وفهم ونور..!! ** أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية. ولقد اصطحب ابنه الى الرسول، فبايع النبي وأسلم.. ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله. يهرب من الأضواء، ويفيئ الى سكينة الظلال. هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى، الا أن تكون صلاة، فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد، فهو يهرول الى الصفوف الأولى، راجيا أن يكون من المستشهدين..! وفيما عدا هذا، فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها، وخيرها وصلاحها وتقاها..!! متبتل، ينشد أوبه..!! أوّاب، يبكي ذنبه..!! مسافر الى الله في كل ظعن، وفي كل مقام... ** ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا، فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم.. ذلم أن قوة ايمانه، وصفاء نفسه، وهدوء سمته، وعبير خصاله، واشراق طلعته، كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه، أ، يراه. ولم يكن يؤثر على دينه أحدا، ولا شيئا. سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت، وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا، لنحن شرّ من الحمر"..!! وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا. سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة.. الغيظ، لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة.. والحيرة، لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر.. ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟ كيف، والمجالس بالأمانة..؟؟ أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟ كيف؟؟ وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة، وأخرجهم من ظلمة..؟ لكن حيرته لم تطل، فصدق النفس يجددائما لصاحبه مخرجا.. وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي، وكمؤمن تقي.. فوجه حديثه الى جلاس بن سويد.. " والله يا جلا، انك لمن أحب الناس الي، وأحسنهم عندي يدا، وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه.. ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها، ليهلكن ديني، وان حق الدين لأولى بالوفاء، واني مبلغ رسول الله ما قلت"..! وأرضى عمير ضميره الورع تماما.. فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها، وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي.. وهو ثانيا أدى لدينه حقه، فكشف عن نفاق مريب.. وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أنه فعل آنئذ، لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه السلام.. بيد أن جلاسا أخذته العزة بالاثم، ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار، وغادرهم عمير وهو يقول: " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في اثمك"... وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال، بل حلف بالله كاذبا..!! لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل: ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم، وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم، وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة،وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير).. واضطر جلاس أن يعترف بمقاله، وأن يعتذر عن خطيئته، لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته، تعده في نفس اللحظة برحمة اله ان تاب هو وأقلع: " فان يتوبوا، يك خيرا لهم".. وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه.. وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه: " يا غلام.. وفت اذنك.. وصدّقك ربك"..!! ** لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة، وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر. وبهرني، كما لم يبهرني شيء، نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم، لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها.. ** تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!! كان يختارهم من الزاهدين الورعين، والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية، ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين.. وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يستأني طويلا، ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه.. وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة: " أريد رجلا اذا كان في القوم، وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير، بدا وكأنه واحد منهم..!! أريد واليا، لا يميز
تسهيلاً على زوارنا الكرام يمكنك الرد من خلال تعليقات الفيسبوك
|
|