لو حدث وسألت مواطنا أميركيا «كامل الأوصاف»، ما الذي يرغب في تناوله في وجبة طعامه الرئيسية، لأجاب بأنه سيطلب قطعة من لحم الستيك أو اللحم المشوي. وإن سألته عن اختياره الثاني فسيكون الجواب قطعة من الهمبرغر أو من أضلاع اللحم. وإن كررت السؤال حول اختياره الثالث فسيكون الجواب، لحم الدجاج أو السمك. ومهما كررت السؤال لمرات ومرات فإنك لن تحصل على جواب من الأميركي المتوسط يقول فيه إنه يرغب في تناول البقول. ولكن الأمور يجب أن لا تستمر على هذا المنوال.
وتشكل البقول غذاء رئيسيا في النظام الغذائي لسكان أميركا الأصليين، كما تظل غذاء رئيسيا لسكان أميركا اللاتينية وللكثير من سكان الكرة الأرضية الآخرين. وربما ولهذا السبب فإنها تبدو مهملة في الولايات المتحدة. ولأنها رخيصة الثمن فإنها توصم بأنها غذاء الفقراء، ولذا فإن سكان المجتمع الأميركي الغني، يفكرون في تناول اللحوم.
وفي الحقيقة فإن اللحوم الحمراء تشكل مصدرا جيدا من الحديد والبروتينات فيما يؤدي تناول البقول إلى الانتفاخ بغازات البطن. ولكن، إن فكرنا في ما هو أبعد من الصور النمطية الثقافية المسبقة وما هو أبعد من العبارات الجارحة حول الغذاء، فإن صورة مختلفة تماما تظهر لنا، وهي أنه وفي ما يتعلق بالصحة فإن اللحوم الحمراء تحظى بأهمية لا تستحقها بينما توضع البقول في منزلة أقل من أهميتها.
* لعبة الأرقام
* ويمثل تحليل العناصر الغذائية التي يحتوي عليها أي غذاء، إحدى طرق تقييمه.
خذ مثلا وقارن قطعة من لحم الستيك «المحترمة» العالية البروتين مع البقول «المهملة» الحاوية على بروتينات جيدة. وستجد أن 5 أونصات (الأونصة = 29 غراما تقريبا) من لحم الستيك تحتوي على 300 سعرة حرارية، بينما يحتوي كوب من فاصولياء البنتو pinto beans على 265 سعرة. إلا أن لحم الستيك هذا يحتوي على 44 غراما من البروتينات، و120 ملليغراما من الكولسترول، و12 غراما من الدهون أغلبها من الدهون المشبعة. وبالمقابل، فإن كوب الفاصوليا يحتوي على 15 غراما من البروتينات، وهو خال من الكولسترول، ولا يحتوي على أكثر من غرام واحد من الدهون، وهي الدهون العديدة غير المشبعة.
ولا يحتوي لحكم الستيك على الكربوهيدرات والألياف، بينما تحتوي الفاصوليا على 26 غراما من الكربوهيدرات المعقدة وعلى 15 غراما من الألياف الغذائية. كما تحتوي الفاصوليا على كميات أكبر من البوتاسيوم وكميات أقل من الصوديوم مقارنة بلحم الستيك. أما محتويات كل منهما من الحديد فهي متساوية، إلا أن الجسم البشري أكثر كفاءة في امتصاص الحديد من مصادره الحيوانية. وأخيرا إذا أضفت الفرق الكبير في الثمن بين هذين الغذاءين إلى هذه المقارنة، فإنك ستجد أن الفاصوليا هي أكثر الغذاءين رخصا مقارنة بلحم الستيك.
ورغم أن الأرقام الواردة حول العناصر الغذائية مهمة، فإنها لا تؤدي بالضرورة إلى التنبؤ بتأثير الغذاء على صحة الإنسان، إذ إن المعلومات حول هذا التأثير المهم تعتمد على الأبحاث الطبية أكثر من اعتمادها على التحاليل الكيميائية. ولحسن الحظ فإن هذه الأبحاث تبرز لنا تأثيرات هذين النوعين من الغذاء.
* اللحوم والوفيات
* في دراسة كبرى نشرت عام 2009 أشرفت عليها معاهد الصحة الوطنية NIH مع مؤسسة «إيه إيه آر بي» AARP، تم التدقيق في تأثير تناول اللحوم على أعداد الوفيات. وفي الدراسة المسماة «دراسة الغذاء والصحة» NIH–AARP Diet and Health Study جرى تقييم حالات 545 ألفا و663 شخصا تراوحت أعمارهم بين 50 و70 سنة، شكل الرجال نسبة 59% منهم.
وإضافة إلى تحديد كمية تناول المشاركين في الدراسة من اللحوم، جمع الباحثون أيضا بيانات عن عمر كل مشارك، ودرجة تعليمه، وحالته الزوجية، وتاريخه العائلي للإصابة بالسرطان، وعرقه، وكميات السعرات الحرارية التي يتناولها، ومؤشر كتلة الجسم لديه، والتدخين، وممارسة التمارين الرياضية، وشرب الكحول، وتناول الفيتامينات، وتناول الفواكه والخضراوات.
وقام العلماء بتقييم ثلاثة أصناف من اللحوم: اللحوم الحمراء التي ضمت قطع لحم البقر والخنزير، واللحوم البيضاء التي ضمت لحوم الدواجن والسمك، واللحوم المعالجة صناعيا التي ضمت النقانق والسجق، وشرائح اللحم البارد.
وخلال متابعة امتدت 10 سنوات، توفي 47 ألفا و976 من الرجال، و23 ألفا و276 من النساء. وظهر أن الرجال الذين كانوا يأكلون اللحوم الحمراء أكثر من غيرهم تعرضوا للوفاة بنسبة 31% أكثر، من الرجال الآخرين الذين تناول أقل من تلك اللحوم. أما التناول الأكثر للحوم المعالجة صناعيا فقد أدى إلى زيادة بنسبة 16% أكثر في عدد الوفيات. وظهر أن أعداد الوفيات بسبب السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية اتبعت نفس نمط مجموع الوفيات، كما تأثرت النساء بمثل تأثر الرجال. وبالمقابل فقد أدى تناول كميات كبيرة من «اللحوم البيضاء» لدى كل من الجنسين إلى تقليل معدلات الوفيات.
وقد ظلت هذه النتائج قائمة حتى بعد أخذ العلماء للعادات الصحية وعوامل الخطر أخرى بعين الاعتبار. وظهر أن الصلة بين اللحوم الحمراء والمعالجة وعدد الوفيات مهمة وجديرة جدا بالاهتمام لأن كميات معتدلة من حصص هذه اللحوم أثرت على أعداد الوفيات. وقد تناول المتطوعون المعرضون لأعلى المخاطر كميات بلغت 4 أونصات من اللحوم الحمراء وأونصة ونصف من اللحوم المعالجة يوميا. وإجمالا فإن العلماء قدروا أن 11% من الوفيات المبكرة لدى الرجال يمكن تداركها بتقليل تناولهم للحوم الحمراء.
وبينما ربطت هذه الدراسة بين تناول اللحوم الحمراء والوفيات بأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، فإن دراسة مراجعة نشرت عام 2010 أفادت بأن تناول كميات كبيرة من اللحوم المعالجة - وليس اللحوم غير المعالجة - يرتبط بزيادة في خطر الإصابة بالسكري وأمراض القلب. إلا أن دراسة من جامعة هارفارد نشرت عام 2010 وجدت أن اللحوم الحمراء المعالجة وكذلك اللحوم غير المعالجة تزيد من الأخطار على القلب، بينما يبدو أن السمك ولحم الدجاج تحميه.
* سرطان القولون
* ورغم أن دراسة NIH - AARP المذكورة كانت الأوسع من مثيلاتها، إلا أنها لم تكن الدراسة المتميزة لوحدها - فقد أشارت الدراسات التي سبقتها، في الحقيقة، إلى وجود صلة قوية على وجه الخصوص بين تناول اللحوم الحمراء والإصابة بالسرطان.
وقد رصدت دراسة مهمة حالات 478 ألفا و40 رجلا وامرأة من 10 دول أوروبية، تم تشخيص 1329 منهم خلال متابعة امتدت 5 سنوات، بسرطان القولون. وظهر أن الأشخاص الذين تناولوا اللحوم الحمراء أكثر من غيرهم (نحو 5 أونصات أو أكثر يوميا) كانوا سيصابون أكثر بمقدار الثلث بسرطان القولون، مقارنة بالذين تناولوا كميات أقل من اللحوم الحمراء (أقل من أونصة واحدة في اليوم في المتوسط).
ولم يؤثر تناولهم من لحم الدجاج على النتائج سواء بالزيادة أو النقصان، إلا أن تناول كميات كبيرة من السمك بدا وكأنه قد قلل من خطر سرطان القولون بمقدار الثلث. وقد ظلت النتائج قائمة في ما يتعلق بتناول اللحوم الحمراء والسمك بعد أن أخذت عوامل خطر الإصابة بسرطان القولون بنظر الاعتبار ومنها وزن الجسم، تناول السعرات الحرارية، شرب الكحول، التدخين، عدم ممارسة التمارين الرياضية، الألياف الغذائية، الفيتامينات.
كما طرحت نتائج دراسة أميركية، آفاقا أوسع. وقد درس الباحثون فيها 148 ألفا و610 أشخاص بين أعمار 50 و74 سنة تقدموا ببيانات عن نمط عاداتهم الغذائية والصحية عند بداية الدراسة عام 1982 ثم بعد 10 و11 سنة لاحقة. وتم رصد صلة بين تناول اللحوم الحمراء واللحوم المعالجة في كلتا الفترتين، وتبين زيادة خطر حدوث السرطان في القولون الأسفل والمستقيم. وبالمقابل، فإن تناول كميات كبيرة من السمك والدجاج لفترة طويلة كان يبدو وقائيا.
وكانت هاتان الدراستان قويتين في النتائج، ولكنهما ليستا الوحيدتين من نوعهما، فقد أشارت دراسة مراجعة لـ29 دراسة حول تناول اللحوم وعلاقته بسرطان القولون إلى استنتاج مفاده أن زيادة تناول اللحوم الحمراء تزيد من خطر السرطان بنسبة 28% فيما يزيد تناول اللحوم المعالجة من الخطر بنسبة 20%.
ولا يزال العلماء غير متأكدين من أسباب تأثير اللحوم الحمراء على الإصابة بسرطان القولون. وتلقي إحدى النظريات اللوم على الأمينات المسماة heterocyclic amines (HCAs)، وهي مواد كيميائية تتولد أثناء طهي اللحم في درجات حرارة عالية. بينما توجه نظرية أخرى الأنظار إلى دور مركبات إن – نتروزو (NOCs) N - nitroso. كما قد تلعب المواد الحافظة الموجودة في اللحوم المعالجة دورها، وخصوصا النترات التي تثير المخاوف، لأن الجسم يحولها إلى أمينات النتروز nitrosamines وهي مواد مسببة للسرطان.
* سرطان البروستاتا
* يعتبر سرطان البروستاتا أكثر أنواع السرطان الداخلية شيوعا بين الرجال الأميركيين والسبب الثاني في الوفيات الناجمة عن السرطان. وقد أفادت بعض الدراسات السابقة بوجود صلة قوية بين تناول اللحم الحمراء وخطر الإصابة بسرطان البروستاتا، إلا أن دراسات أخرى لم تتوصل إلى مثل هذه النتيجة.
ولكن ثلاث دراسات قدمت دلائل على وجود مثل هذه الصلة. فقد وجدت دراسة عام 2009 لحالات 175 ألفا و343 رجلا أميركيا أن تناول كميات كبيرة من اللحوم الحمراء واللحوم المعالجة يبدو أنه يزيد بمقدار الثلث من خطر حدوث سرطان متقدم في البروستاتا، وأفادت دراسة أخرى أن تناول كميات كبيرة من اللحوم الحمراء وخصوصا اللحوم المطهية والمعالجة ارتبط بمضاعفة خطر حدوث سرطان البروستاتا لدى الأميركيين من أصل أفريقي، وليس الأميركيين البيض. أما الدراسة الثالثة فقد وجدت أن تناول اللحوم المطهية جيدا قد أدى كما يبدو إلى زيادة بنسبة 40% من الخطر، إلا أن اللحم المطهي بدرجات حرارة أقل لم يزد من الخطر بشكل كبير.
ولذا فإن من الأفضل للبروستاتا، كما هو الحال بالنسبة للقولون، التوجه إلى التقليص الحكيم لكميات اللحوم الحمراء المتناولة، وخصوصا اللحوم المعالجة والمشوية.
كما أشارت دلائل أخرى إلى أن اللحوم الحمراء قد تكون مسؤولة عن حدوث سرطان المعدة وسرطانات الرئة والمثانة والثدي والبنكرياس. وإن لم يكن السرطان هو المهم، فقد ربط العلماء أيضا بين تناول اللحوم الحمراء والسمنة وأمراض الرئة.
* هل أتناول اللحوم؟
* ويطرح التساؤل التالي: هل يكمن أن أستمر في تناول اللحوم؟ والجواب هو أنه لا توجد حاجة لتجنب اللحوم الحمراء، إلا أن علينا أن ننتقيها بعناية، ونحضرها بشكل مناسب، وأن نتناولها بشكل متباعد.
- تجنب القطع الدهينة من اللحوم الحمراء. وتجنب تناول لحوم الأضلاع، ولحوم الأعضاء (الكبد، الكلية)، واللحوم المعالجة.
- اختر اللحوم خالية الدهون، اقطع الدهون من اللحوم واستبعدها.
- لا تقلي اللحوم، بل اشوها في الفرن بحيث تتقطر منها الدهون. تخلص من دهون اللحوم المطبوخة في المرق.
- اطهُ اللحم بدرجة حرارة 165 فهرنهايت (74 درجة مئوية)، ولا تحرقه.
كم من اللحم يمكن تناوله؟ يقترح المعهد الأميركي لأبحاث السرطان تناول كمية لا تزيد على 300 غرام أسبوعيا، منها كمية ضئيلة من اللحوم المعالجة.
لقد كانت اللحوم نوعا من الترف قبل حدوث الثورتين الزراعية والصناعية حيث أدتا إلى زيادة إنتاجها وتدني أسعارها، وبهذا فقد أصبحت غذاء رئيسيا. وعلينا اليوم أن نعيد التفكير في كمياتها المتناولة وطريقة إعدادها.
* الضمور البقعي في العين.. وتناول اللحوم الحمراء
* الضمور البقعي في العين - المرتبط بتقدم العمر Age - related macular degeneration (AMD) هو السبب الرئيسي لفقدان البصر لدى كبار السن.
وقد وجدت دراسة استرالية نشرت عام 2009 أن الأشخاص الذين تناولوا اللحوم الحمراء 10 مرات أو أكثر في الأسبوع، يزداد لديهم ظهور الضمور البقعي - المرتبط بتقدم العمر بنسبة 50 في المائة مقارنة بالأشخاص الذين يتناولون خمس حصص من تلك اللحوم أو أقل في الأسبوع.
وجاءت النتائج متشابهة للذين تناولوا اللحوم المعالجة والذين تناولوا اللحوم الطازجة، كما ظلت قائمة بعد أن أخذ الباحثون عوامل الخطر الأخرى بنظر الاعتبار. وعلى النقيض من ذلك فقد ظهر أن تناول كميات كبيرة من لحم الدجاج يلعب دور الحماية. ورغم أن هذه الدراسة وحيدة، فإن نتائجها جديرة بالاهتمام.
* اللحوم.. وجودة الحيوانات المنوية
* إن كان الغذاء الذي يحتوي على كميات كبيرة من اللحوم يحمل أنباء سيئة لقلب الرجل وقولونه، فإن دراسة إسبانية نشرت عام 2009، أشارت إلى أن الرجال الذين تناولوا كميات كبيرة من اللحوم المعالجة وكذلك منتجات الألبان الكاملة الدسم رصدت لديهم نوعية متدنية الجودة من الحيوانات المنوية، مقارنة بالرجال الذي تناولوا منتجات الألبان المنزوع الدسم، والخضراوات.
وتكهن العلماء بأن اللحوم ومنتجات الألبان كاملة الدسم ربما تحتوي على كميات قليلة من الهرمونات الستيرويدية أضاف إلى مواد كيميائية ملوثة ضارة، بينما توفر الخضراوات الحاوية على الفيتامينات، الوقاية.