منذ أسبوعين كتبت مقالاً يدعو إلى أن نتحالف كمصريين لإسقاط منظومة التوتر الدينى فى مصر.. وشرحت أنها منظومة متكاملة تمددت وتعددت عناصر المستفيدين من استمرارها.. وأنه من الضرورى أن نُسقط هذه المنظومة، لأن بقاءها يجعل «التغيير عصياً»، ما ينذر بخطر حقيقى على مصر.
(١)
أكتب هذه الكلمات من على الأرضية الوطنية العريضة التى أنطلق منها فى كل ما أكتب. وفى ضوء اتصالات هاتفية عديدة تلقيتها، ولقاءات مع كثيرين ومشاهدات ومطالعات متفرقة. فما حدث فى مصر على مدى الأسابيع الماضية غير مسبوق. فلم يحدث منذ أن بدأت أحداث التوتر الدينى قبل أربعة عقود أن بنيت كنيسة وفق فتوى دينية على أرض الواقع، وأن يعطى البعض نفسه الحق فى أن ينفذ الحد بقطع أذن أحد المصريين وتتم المصالحة على أسس عرفية، وأن يتعرض أهل قرية بدير مواس لدفع إتاوات، كذلك هتك أعراض السيدات (راجع نادر شكرى جريدة «وطنى» ٢٧/٣/٢٠١١)، وأخيراً ما تواتر أثناء كتابة هذا المقال من رسالة تناقلتها أجهزة المحمول حول التخطيط للاعتداء والخطف على السيدات والفتيات القبطيات غير المحجبات يوم الثلاثاء ٢٩/٣، الأمر الذى أصاب كثيراً من الأسر بالخوف الحقيقى. وإبان ذلك تجد حوارات تتحدث عن الدولة الدينية لا تدرك عمق الخبرة المصرية وتطور دولتها الحديثة التى لم تكن يوما فى خصومة مع الدين.
(٢)
أتفهم أنه قد تكون هناك بعض المبالغات وأن بعض القوى من مصلحتها إشاعة مناخ من الترويع. وأنه ليس بالضرورة أن يكون الفاعل صاحب أيديولوجية دينية، وإنما قد يكون بلطجيا. كما أدرك أن مراحل التحول المجتمعية تتسم بالسيولة التى تبيح وتتيح كل شىء. إلا أن الأمر جد خطير ويهدد مصر المحروسة، ويغطى على كل ما هو إيجابى أحدثه التغيير.. التغيير الذى أوجد حالة من التوحد الوطنى بين المصريين أكدت أن الهموم واحدة والتحديات التى تواجههم هى نفسها، وأن الأزمة فى الواقع هى أزمة مجتمعية من المطلوب تحويل النظر عنها، وأشهد فى هذا السياق كيف أن هناك أعداداً غفيرة من الشباب نقابلها، خاصة من الشرائح الوسطى من المسيحيين والمسلمين متجاوزة ثقافة «الاستقطاب» إلى ثقافة «الشراكة الفاعلة».
(٣)
إلا أنه لم يعد مقبولا الصمت أو السكوت عما يحدث، فروح «التحرير» لابد من أن تقدم نموذجا جديدا للتعاطى مع ملف العلاقات الإسلامية المسيحية. فلقد دأبنا على مدى العقود الأربعة الماضية على أن نعطى أولوية للحلول البيروقراطية: الأمنية والدينية على حساب ما يمكن أن نطلق عليه الحل المركب: السياسى/ المدنى والثقافى والاجتماعى.. لم يكن هناك ما يمنع أن يجتهد المجتهدون من مثقفين وكتاب ومختصين ونشطاء.. لكن فى الأغلب لا يلتفت لعائد هذا الاجتهاد إلا فيما ندر، وأظن أنه ليس مقبولاً أيضاً إحياء حلول ثبت أن الوقت قد تجاوزها من عينة «لجنة الحكماء» و«بيت العائلة» وما شابه، فكلها مفردات لا تعبر عن ذهنية حداثية ذات طابع مؤسسى، وأن تطل من الماضى أشباح محسوبة على البيروقراطية التى أشرنا لها فشلت عبر عقود فى حل المشكلة، وتحاول أن تعيد إنتاج آليات لم تفلح فى حل أى شىء.
(٤)
إن ما نحتاجه الآن هو آلية تتعامل مع الملف بمنهج علمى يأخذ فى الاعتبار استيعاب المراحل التى مرت بها العلاقات الإسلامية المسيحية، والتحولات التى طرأت عليها، وعمل معايير توصيف دقيقة للتوتر، ورسم خريطة دقيقة لما أطلقت عليه «جغرافيا التوتر الدينى»، آلية تحذر مبكرا، وتتعامل مع ما يحدث بعلم وشفافية، وترصد الخطابات والممارسات التمييزية، وتكذب أو تؤكد ما يتواتر، وتضع الاستراتيجيات والحلول قصيرة ومتوسطة وبعيدة الأمد، من خلال خط ساخن، وشبكة جهات، وأمور أخرى.
لقد أطلقنا على هذه الآلية اسم «عبور»، ونأمل أن تكون محل دعم رسمى وشعبى، درءاً للخطر.
(٥)
أثق فى مصر الاعتدال بأنها قادرة على مواجهة الخطر، وأن التغيير الذى بدأت إرهاصاته فى ٢٥ يناير سوف يظل يُرفرف من حولنا وبنا، مثل الفراشة لا يزول أثره، كما يقول محمود درويش:
«يستدرج المعنى» والفكر والفعل،
«فيتضح السبيل» إلى «إشراق جميل»...
يتجاوز كل ما هو قديم - دميم - من كيانات وأفكار وأشخاص.