فلسفة الألم
والحزن،
سمعتُ أنّ للهجران وجعاً .. ولم أذقه، حتى كان اليوم
!
وجهلتُ أنّ للخجل دمعاً .. حتى كان هذا المساء !
لقد تعلمتُ – مسائي هذا -
لغة دمع جديدة .. غير اللغة السائدة من دموع الحزن وأدمع الفرح، لقد كان مساءً
شجياً .. بكيتُ فيه ندماً وخجلاً ..
وكان في أعينهنّ دمع العتاب!
دموع اللقاء،
إذا كنتَ مهجوراً، فستكون ذكرياتكَ مرفرفة في
خاطركَ عن أصحابكَ أولئك، تلحّ عليكَ أن تبحث عنهم، وتحبهم، وتكون وفياً .. ولو
بذكرى !
أمّا إذا كنتَ هاجراً .. فلن تأبه كثيراً أثناء الهجرة، فأنتَ حينها
تركض وتركض دون أن تلتفتَ لمن حولكَ .. ولمن خلفكَ .. ولمن أمامكَ .. لن تحاول حتى
النظر إليهم، سيهمكَ فقط أن تزيد من سرعتكَ لتصل .. ستتبلد حينها مشاعركَ، ويتصلب
قلبكَ، وتبهت ذكرياتكَ!
لكن .. يجب أن تعرف أنّ الأمر
سيختلف حين اللقاء .. بشرط !
أن يكون في قلبكَ بقية من
رحمات تشقق منه الأنهار .. خاصة بعد هجران السنين ..
لذلك .. كان عناقاً شجياً
.. وحزناً شجياً .. ولقاء شجياً !
في مأتم أم،
رائحتها عابقة، وابتسامتها تلوح، وفي الزوايا بقايا من بقاياها ..
ما ظننتُ
يوماً أن سيكون لقاءنا هكذا .. وهنّ متوشحات بطرح سوداء، والحزن يضفي على وجوههن
الصبيحة غلالة قاتمة تصيب قلبي بنصل حاد .. أغمض عينيّ .. فما عهدتْ هذا البيتَ
حزيناً من قبل، أخذتُ أنظر في الجدران وأسألها إن كانت تذكرني ..وتذكر بسماتنا ..
وليالينا .. ومشاعلنا .. وبدورنا .. وأملنا .. وهدانا .. وأسماءنا .. وسمية ؟!
قلتُ بانكسار: كيف ماتت؟
تركض الاخوات ذات الدموع المنكسرة .. وترتمي علي
فأحضنها بوجع .. تأتيني إجابة قاسية كقسوة الهجر: كانت مريضة .. وكانت تسأل عنكِ
كثيراً حتى مماتها !
أرى في الكلمات عتاباً .. أكاد أسمع همسها سائلاً بضعف ..
أغصّ بعبرتي ولا أجيب ..
في داخلي وحشة ..!
تقول أخرى: كانت تحبّكِ ! ..
تزداد وحشتي .. أهمس: وأنا كذلك كنتُ أحبّها ..
تنبري باكية: لا تقاطعينا من
جديد .. أرجوكِ .. وفاء لذكراها !!
يلتف حول عنقي ندم، أهزّ رأسي .. تسألني:
عندكِ رقم هاتفنا؟! .. هل أقول أنّي نسيته ؟!
كنا نجتمع دائماً .. ونضحك ..
وكانت تضحك معنا .. ومنّا ..
كان بيني وبين بناتها محبة رائقة عذبة صافية ..
يتوجها حنان دافق من قلبها الندي ..ووجهها المشرق ..
واليوم .. عدنا لنجتمع بعد
سنين القطيعة ..
اجتمعنا .. لنبكيها !
الوصل بعد الهجر،
هو الدرس
!
لا هجران بعد اليوم .. !
رغم أنّي أنادي دوماً أن نبحث عن الأحباب
.. لكني كنتُ أفعل ذلك من باب الترف الفكري .. الذي لا نعيشه حقيقة .. لقد كان
درساً قاسياً .. أيقظ فيّ ذاكرتي وشائج قديمة ذهبتْ بها الأيام، فما عادت تلقى
سكناً بين دقائقي الصاخبة !
لقد جعلني الدرس أفتح درجاً مهجوراً .. وأنظر في
دفتر الهواتف القديم ..
التقيتُ فيه بأسماء كثيرة غابتْ عن أيامي .. أو غبتُ
عنها .. وثار في داخلي جيش من الحنين .. !
أغلقتُ دفتري .. شعرتُ بعزيمة ..
وهتفَ في داخلي هاتف الأخوّة ..
حينها .. قررتُ صادقة مع الله .. ومع نفسي
..
بأنني وإن كثرتْ هموم الحياة .. سأسعى بإخلاص نحو منابر
النور !