طه حسين تاريخ التسجيل : 27/05/2009
| موضوع: رد: الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ .. الْـمَفَاهِيمُ وَالْأَحْكَامُ الخميس أغسطس 11, 2011 12:26 pm | |
| (5)
الدَّوْلَةُ الْـمَدَنِيَّةُ كَمَا يَتَصَوَّرُهَا بَعْضُ مُنَظِّرِي الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ
دارتْ مناقشاتٌ حادَّةٌ بينَ بعضِ فقهاءِ الإسلامِ المعاصرينَ ، وبينَ العلمانيينَ والليبراليينَ حولَ مفهومِ الدولةِ المدنيَّةِ ، وكانَ من أثرِ هذه المناقشاتِ أنْ شاعَ في كتاباتِ أولئكَ الفقهاءِ الذينَ سميتُهُمْ هُنَا «مُنَظِّرِي الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ» ـ وَقيدُ السياسيِّ هُنَا باعتبارِ البابِ الفقهيِّ ، وليسَ باعتبارِ أنَّ هناكَ إسلامًا غيرَ سياسيٍّ ـ شاعَ بينهُمْ مفهومٌ معينٌ للدولةِ المدنيَّةِ رأوْا أنَّهُمْ عالجُوهُ بحيثُ لا يتعارضُ مع الإسلامِ ، ويمكنُ استعمالُهُ بلا حرجٍ ، بلْ ويمكنُ القولُ-بحسب رأيهم- أنَّ الإسلامَ باعتبارٍ مَا لا يُعارضُ الدولةَ المدنيَّةِ .
ويمكنُنَا تلمُّسُ هذا المفهومِ من خلالِ نصوصِهِمُ التاليةِ :
1- الشيخ محمد عبده([1]):
في بدايةِ القرنِ الحالي وعندمَا نشرَ الشيخُ في جريدةَ «الأهرامِ» مقالاتٍ شهيرةً في الردِّ على «هاناتو» الذي ترجمت الأهرامُ عن الفرنسيةِ انتقاداتَهُ للإسلامِ ،وفي ردِّهِ قالَ الشيخُ محمدُ عبده : «يقولُ «مسيو هاناتو» :«إِنَّ أوروبا لم تتقدَّمْ إلَّا بعدَ أن فصلتِ السُّلطةَ الدينيَّةَ عنِ السُّلطةِ المدنيَّةِ»، وهو كلام صحيحٌ، ولكن لم يدرِ ما معنَى جمعِ السلطتينِ في شخصٍ عند المسلمينَ، لم يعرف المسلمونَ في عصرٍمن الأعصرِ تلك السلطةَ الدينيَّةَ التي كانتْ للبابا عندالأممِ المسيحيَّةِ، عندما كان يعزلُ الملوكَ،ويحرمُ الأمراءَ، ويقرِّرُ الضرائبَ على الممالكَ، ويضعُ لها القوانين الإلهيَّةَ» .
ثم يضيفُ الشيخُ : «وقد قررتِ الشريعةُ الإسلاميةُ حقوقًا للحاكمِ الأعلى، وهو الخليفةُ أو السلطانُ، ليست للقاضي صاحبِ السلطةِ الدينيةِ ، وإنما السلطانُ مديرُ البلادِ بالسياسةِ الداخليةِ، والمدافعُ عنها بالحربِ أو بالسياسةِ الخارجيةِ، وأهلُ الدينِ قائمونَ بوظائفهِمْ، وليسَ له عليهِمْ إلَّا التوليةُ والعزلُ، ولا لهم عليهِ إلا تنفيذُ الأحكامِ بعدَ الحكمِ ورفعِ المظالِـمِ» .
وفي موضع آخرَ «عنِ النصرانيَّةِ والإسلامِ» يعددُ الشيخُ محمدُ عبده أصولَ الإسلامِ مشيرًا إلى أنَّ من بينِهَا «قلبَ السلطةِ الدينيَّةِ» ، وتحتَ هذا العنوانِ يقولُ : «هدم الإسلامِ بناء تلكَ السلطةِ (الدينيَّةِ)، ومحَا أثرَهَا، حتى لم يبقَ لها عند الجمهورِ من أهلِهِ اسمٌ ولا رسمٌ . لم يدعِ الإسلامُ لأحدٍ بعدَ اللهِ ورسولِهِ سلطانًا على عقيدَةِ أحدٍ، ولا سيطرةً على إيمانِهِ» .
ثمَّ يوضحُّ فكرته بعدَ ذلك بقولِهِ : «ولا يجوزُ لصحيحِ النظرِ أنْ يخلطَ الخليفةَ عند المسلمينَ بما يسميِّهِ الإفرنجُ «ثيوكراتيك»أي:سلطانٌ إلهيٌّ ؛ فإنَّ ذلكَ عندهُمْ هو الذي ينفردُ بتلقِّي الشريعةِ عن اللهِ» .
ويضيفُ : «ثُمَّ هم يبهمونَ يضلونَ فيمَا يرمونَ به الإسلامَ من أنَّهُ يحتمُ قرنَ السلطتينِ في شخصٍ واحدٍ ،ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلمِ : أن السلطانَ وهو واضعُ أحكامِهِ، وهو منفذُهَا .... وهذا كلُّهُ خطأ محضٌ» .
ثُمَّ يقول الشيخُ : «ليسَ في الإسلامِ سلطةٌ دينيةٌ سوى سلطةِ الموعظةِ الحسنةِ، والدعوةِ إلى الخيرِ، والتنفيرِ من الشرِّ، وهي سلطةُ خولَّهَا الله لأدنى المسلمينَ ،ويقرعُ بها أنفَ أعلاهُمْ، كما خولَّهَا لأعلاهم يتناولُ بها من أدناهم» .[الأعمال الكاملة (1/107)].
2- الشيخ يوسف القرضاوي :
يقولُ الشيخُ القرضاويُّ : «الدولةُ الإسلاميَّةُ التي يُقيمُهَا الإسلامُ ، ويدعُو إليهَا الإسلاميُّونَ : ليستْ هِيَ «الدَّوْلَةُ الدينيَّةُ الثِّيُوقْرَاطِيَّةُ» التِي استقيتُمْ صورتَهَا مِنَ الكنيسةِ الغربيةِ في عصورِهِمُ الوسطَى.. فالخطأُ كلُّ الخطأِ الظنُّ بأنَّ الدولةَ الإسلاميَّةَ التي يدعُو إليهَا الإسلاميونَ «دولةً دينيَّةً» ، إنَّمَا الدولةُ الإسلاميَّةُ إذا نظرنَا إلى المضمونِ لَا الشَّكلِ ، وإلى الْـمُسمَّى لا الاسمِ «دولةٌ مدنيَّةٌ مرجعُهَا الإسلامُ» ، وهي تقومُ على أساسِ الاختيارِ والبيعةِ والشورَى ، ومسؤوليَّةُ الحاكمِ أمامَ الأمَّةِ ، وحقِّ كلِّ فردٍ في الرعيةِ أن ينصحَ لهذَا الحاكِمِ ، يأمرُهُ بالمعروفِ ، وينهاهُ عن المنكرِ.. والحاكمُ في الإسلامِ واحدٌ مِنَ الناسِ ليسَ بمعصومٍ ولا مُقدَّسٍ . يجتهدُ لمصلحةِ الأمَّةِ ؛ فيصيبُ ويخطئُ .. وهو يستمدُّ سلطتَهُ وبقاءَهُ في الحكمِ من الأرضِ لا مِنَ السماءِ ، ومِنَ الناسِ لا مِنَ اللهِ ، فإذَا سحبَ الناسُ ثقتَهُمْ منهُ ، وسخطتْ أغلبيتُهُمْ عليهِ لظلمِهِ وانحرافِهِ ؛ وَجَبَ عزلُهُ بالطرقِ الشرعيَّةِ ، ما لم يؤدِّ ذلك إلى فتنةٍ وفسادٍ أكبرَ ، وإلَّا ارتكبُوا أخفَّ الضررينِ ، والحاكمُ في الإسلامِ ليسَ وكيلُ اللهِ ، بل هو وكيلُ الأمةِ ، أو أجيرُهَا ، وكَّلَتْهُ إدارةُ شؤونِهَا ، أو استأجرَتْهُ لذلكَ .. والدولةُ الإسلاميَّةُ لا يقومُ عليهَا «رجالُ الدينِ» بالمعنَى الكهنوتيِّ المعروفِ في أديانٍ عدَّةٍ ؛ فهذا المعنَى غيرُ معروفٍ فِي الإسلامِ ، إنما يوجد علماءُ دينٍ مِنْ بابِ الدراسةِ والتخصصِ ، وهذَا بابٌ مفتوحٌ لكلِّ من أرادَهُ وقدرِ عليهِ»([2]) [«التطرفُ العلمانيُّ في مواجهةِ الإسلامِ» : (ص/74-77) باختصار] .
ويقول : ((وأما من استدل من الكتاب المعاصرين على أن الدولة الإسلامية دولة دينية -على معنى أنها تحكم بالحق الإلهي- بأنها تقوم على عقيدة الحاكمية الإلهية = فالحق أن فكرة الحاكمية أساء فَهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها. أما الحاكمية بالمعنى التشريعي، فمفهومها: أن الله سبحانه هو المُشرَّع لخَلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل تعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل)) ([3]). [الدين والسياسة (ص/165)].
3- الدكتور محمد عمارة :
ويقولُ الدكتورُ محمدُ عمارةُ : «الدولةُ الإسلاميَّةُ دولةٌ مدنيَّةٌ تقومُ على المؤسساتِ ، والشورَى هي آليَّةُ اتخاذِ القراراتِ في جميعِ مؤسساتِهَا ، والأمةُ فيها هي مصدرُ السلطاتِ شريطةَ ألَّا تُحِلَّ حرامًا، أو تحرِّمَ حلالًا ، جاءتْ بِهِ النصوصُ الدينيَّةُ قطعيَّةُ الدلالةِ والثبوتِ، هي دولةٌ مدنيَّةٌ ؛ لأنَّ النُّظُمَ والمؤسساتِ والآلياتِ فيها تصنعُهَا الأمةُ ، وتطورُهَا وتغيِّرُهَا بواسطةِ مُمَثِّلِيهَا ، حتَّى تُحقِّقَ الحدَّ الأقصَى مِنَ الشورَى والعدلِ ، والمصالحِ المعتبرةِ التي هي متغيِّرَةٌ ومتطوِّرَةٌ دائمًا وأبدًا ، فالأمةُ في هذه الدولةِ المدنيَّةِ هي مصدرُ السلطاتِ ؛ لِأَنَّهُ لا كهانَةَ في الإسلامِ ، فالحُكَّامُ نوابٌ عن الأمةِ ، وليسَ عن اللهِ ، والأمةُ هي التي تختارُهُمْ ، وتراقبُهُمْ ، وتحاسبُهُمْ ، وتعزلُهُمْ عندَ الاقتضاءِ ، وسلطةُ الأمةِ ، التي تمارسُهَا بواسطةِ مُمَثِّلِيهَا الذينَ تختارُهُمْ بإرادتِهَا الحرةِ : لَا يحدُّهَا إلَّا المصلحةُ الشرعيَّةُ المعتبرَةُ ، ومبادِئُ الشريعَةِ التي تلخصُهَا قاعدةُ : «لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ» .. والدولةُ الإسلاميَّةُ دولةُ مؤسساتٍ ، فالمؤسسةُ مبدأٌ عريقٌ في الدولةِ الإسلاميَّةِ ، تستدعِيهِ وتؤكدُ عليهِ التعقيداتُ التي طرأتْ على نُظُمِ الحُكْمِ الحديثِ ؛ ولأنَّ الدولةَ الإسلاميَّةَ دولةُ مؤسساتٍ ، كانتِ الْقيادةُ فيهَا والسُّلطةُ جماعيةً ترفضُ الفرديَّةَ ، والدِّيكْتَاتُورِيَّةَ ، والاستبدادَ ، فالطَّاعةُ للسلطةِ الجماعيَّةِ ، والردِّ إلى المرجعيَّةِ الدينيَّةِ عندَ التنازعِ» . [«في النظامِ السياسيِّ الإسلاميِّ» : (ص/45-47) باختصار].
التعليق:
المتأمِّلُ فيما تقدَّمَ نقلُهُ ، وفيما يشبهُهُ كثيرًا من كلامِ هذه الطبقةِ من أهلِ العلمِ ؛ يُلَاحِظُ أنهم تعاملُوا مع مفهومِ الدولةِ المدنيَّةِ بنفسِ المنهجِ الذي سبقَ وتعاملَ به غيرُهُمْ مع مفاهيمِ «الاشتراكيَّةِ ـ الرأسماليَّةِ ـ الديمقراطيَّةِ» ، وهو منهجٌ يقومُ على تفكيكِ المصطلحِ ، واستخراجِ بعضِ المفرداتِ المفاهيميَّةِ وقَبُولِهَا بناءً على وجودِ ما رأوْا هُمْ أنَّهُ مطابقٌ له في الإسلامِ ، ثمَّ الانتقالُ إلى القولِ بأنَّهُ لا تعارضَ بينَ الإسلامِ وبينَ هذا المفهومِ .
* وإذَنْ : فهناكَ ثلاثُ دوائرٍ للنظرِ في تقييمِ هذا المنهجِ:
الأُولَى : دائرةُ النظرِ في عمليَّةِ تفكيكِ المصطلحِ التي قامُوا بها ، وهلْ فاتَهُمْ في هذا التفكيكِ مفرداتٌ مفاهيميَّةٌ لا يمكنُ عزلُهَا عن المصطلحِ ، بلْ هي كامنةٌ فيه كمونًا حيويًّا ، بحيثُ يعدُ فصلُهَا عنهُ بمنزلةِ توليدٍ وتطويرٍ دلاليٍّ للمصطلحِ ، بحيثُ يكونُ استعمالُ هذا المصطلحِ بعدَ التفكيكِ العازلِ هذا لا يخلُو من نوعٍ من المغالطةِ ؛ لعدمِ تواردِ المصطلحِ الفلسفيِّ محلَّ البحثِ ، والمصطلحِ الـمُوَلَّدِ على محلٍّ واحدٍ ؟
الثَّانِيَةُ : دائرةُ النظرِ في المفاهيمِ الإسلاميَّةِ التي رأى أولئك العلماءُ أنها مُطَابِقَةٌ للمفاهيمِ التي انتزعُوهَا من المصطلحِ ، وهلْ حالةُ التطابقِ تامَّةً ، أم هناك تكَلُّفٌ في المطابقةِ ، وفُرُوقٌ مؤثرةٌ ؟
الثَّالِثَةُ : دائرةُ حكمِ استعمالِ اللفظِ الـمُعَيَّنِ محلِّ البحثِ للتعبيرِ عن المعنى الذي رآهُ أولئك العلماءُ معنًى صحيحًا جاءَ به الإسلامُ ، ومحلُّ النظرِ هنا هو على الحالتينِ ؛ حالةُ سلامةِ المعنى وصحتِهِ كليًا ، أو حالةُ وقوعِ الخللِ في دائرتيِ النَّظرِ السابقينِ أو إحداهُمَا .
ونظرًا لضيقِ مقامِ هذه الورقةِ ؛ فسنكتَفِي بالنظرِ في الدائرةِ الأولَى ، والاكتفاءِ ببيانِ وقوعِ الخللِ فيهَا ، والانتقالِ إلى الدائرةِ الثالثةِ ؛ إِذِ الدَّائرةُ الثانيةُ يعوزُهَا بحثٌ شاقٌّ .
الدَّائِرَةُ الْأُولَى :
لقد أقبلَ العلماءُ المذكورونَ على مصطلحِ الدولةِ المدنيَّةِ ، ففككوهُ وتناولُوا منهُ أمرينِ رئيسيينِ :
1 ـ كونُهُ مصكوكًا لمواجهةِ الدولةِ الدينيَّةِ الكنسيَّةِ ، ومفهومُ الحقِّ الإلهيِّ . 2 ـ بعضُ آلياتِ ومعالِـمِ الدولةِ المدنيَّةِ خاصَّةً كما قررَهَا «جون لوك» ؛ إذْ لا يبدُو أيُّ أثرٍ في كلامِ أولئكِ العلماءِ يدلُّ على أنَّهُمْ تتبعُوا تطورَ هذا المفهومِ ومضامينَهُ عندَ الذين قررُوهُ ، وإلَّا لانْتَبَهُوا إلى التضاربِ الشديدِ في بعضِ هذه الآلياتِ بينَ «جون لوك» ومن سبقَهُ .
وبهذا يكونُ قد فاتَ أولئكَ العلماءُ جزءٌ عظيمُ الخطرِ من مفهومِ الدولةِ المدنيَّةِ عند المتكلمينَ به بما فيهم «جون لوك» ، وهو عدمُ قبولِ السلطةِ العُليَا الحاكمةِ لأيِّ استمدادٍ مُلْزِمٍ للقانونِ من الدينِ ، بلْ ومن أيِّ مرجعيَّةٍ متجاوزَةٍ .
وبالتالِي عندمَا يأتي الشيخُ القرضاويُّ ، فيقولُ : «إنَّ الحاكمَ في الإسلامِ مقيَّدٌ ، غيرُ مطلقٍ؛ فهناكَ شريعةٌ تحكمُهُ ، وقِيَمٌ تُوَجِّهُهُ ، وأحكامٌ تُقَيِّدُهُ ، وهي أحكامٌ وضعهَا له ولغيرِهِ ربُّ الناسِ ، ولا يستطيعُ هو ولا غيرُهُ من الناسِ أن يلغُوا هذه الأحكامَ أو يُجَمِّدُوهَا ، فلا مَلِكَ ، ولا رئيسَ ، ولا برلمانَ ، ولا حكومةً ، ولا مجلسَ ثورةٍ ، ولا لجنةً مركزيَّةً ، ولا مؤتمرً للشعبِ ، ولا أيَّ قوةٍ في الأرضِ تملكُ أن تغيِّرَ من أحكامِ اللهِ القطعيَّةِ الثابتةِ والدائمةِ شيئًا» [«التطرفُ العلمانيُّ» : (ص/76)].
وعندما يقولُ الدكتورُ محمدُ عمارةُ : «والأمةُ فيهَا هي مصدرُ السلطاتِ شريطةَ ألَّا تُحِلَّ حرامًا ، أو تحرِّمَ حلالًا جاءتْ به النصوصُ الدينيَّةُ قطعيةُ الدلالةِ والثبوتِ».
فهُمَا ومن يقررُ هذَا التقريرَ القائم على حاكمية الله (حتى بمعناها الصحيح) من أهلِ العلمِ يكونونَ بهذَا مناقضينَ لركنٍ رئيسيٍّ من أركانِ مفهومِ الدولةِ المدنيَّةِ ، التي لا ترفضُ دولةَ الكنيسةِ «الثِّيُوقْرَاطِيَّةِ» فحسب ، بل ترفضُ أيَّ مرجعيَّةٍ متجاوزةٍ من دينٍ أو خُلُقٍ تكونُ لها سلطةٌ إلزاميَّةٌ تفوقُ السلطةِ العُليَا، وبالتالِي : فإنَّ للعلمانيِّ أَوِ اللِّيبراليِّ أنْ يتهِمَ المشايخَ الأفاضلَ بالمغالطةِ المنطقيَّةِ الاستدلالية ، ونوعُ المغالطةِ التي وقعَ فيهَا الأساتذةَ هنا هي إطلاقُ الألفاظِ على غيرِ معانيهَا محلَّ البحثِ ، باستغلالِ وجودِ شبهٍ مَا ، أو تقاربٍ مَا ، أو تشاركٍ من بعضِ الوجوهِ بينَ معانيهَا الأصليةِ والمعانِي التي أُطلقتْ عليهَا في المغالطةِ التزييفيَّةِ([4]).
فعندما يقولُ العلماءُ المذكورونَ : «إنَّ دولةَ الإسلامِ مدنيَّةٌ» . يسألُـهُمُ الْعلمانِيُّ : «هَلِ الْحاكمُ المسلمُ في الدولةِ الإسلاميَّةِ مُلْزَمٌ بقبولِ قوانينَ من دينِ الإسلامِ بحيثُ لا يسعهُ إلَّا اتِّبَاعُهَا ؟!» . فيجيبُ العلماءُ المذكورونَ : «نعمْ ، ولَابُدَّ» . فيجيبُ العلمانِيُّ : «فلمْ تعدْ دولةُ الإسلامِ دولةً مدنيَّةً لِافْتقادِهَا ركنًا أساسيًّا من أركانِ الدولةِ المدنيَّةِ ، وإنْ بقيتْ فيهَا أركانٌ أخرَى» .
فحقيقةُ الأمرِ : أنَّ دولةَ الإسلامِ دولةٌ مدنيَّةٌ إذَا فسرنَا مفهومَ الدولةِ المدنيَّةِ بهذِهِ العباراتِ الشارحةِ التي يذكرهَا هؤلاءِ العلماءِ ، ويكونُ مصطلحُ الدولةِ المدنيَّةِ بهذا التفسيرِ مصطلحًا جديدًا خاصًّا بأولئكَ العلماءِ ، ولَا يتواردُ هو والمصطلحُ الفلسفيُّ محلَّ مطالبةِ العلمانيِّ على محلٍّ واحدٍ بتمامِهِ ، وبالتالِي تظلُّ مطالبةُ العلمانيِّ بدولةٍ مدنيَّةٍ بالمعنَى الفلسفيِّ قائمةٌ لا يدفعُهَا وجودُ بعضِ مفاهيمِ الدولةِ المدنيَّةِ بالمعنَى الفلسفيِّ في الإسلامِ ؛ لمكانِ فواتِ ركنٍ آخرَ مؤثرٍ([5]) .
إذا تقرَّرَ ما تقدَّمَ ؛ فإنَّ هذه العبارةَ التي كثُرَ تردَادُهَا : «دولةٌ مدنيَّةٌ مرجعُهَا الإسلامُ»، هي كقولِ القائلِ : «متحركٌ ميتٌ» ، وكقوله : «ظالِـمٌ بإنصافِ» ، جميعُهَا عباراتٌ تحملُ التناقضَ في طياتِهَا ، لا يمكنُ قَبولُهَا إلا كما قُلْنَا بتفسيرٍ آخرَ للدولةِ المدنيَّةِ يحيلُ المصطلحَ إلى صورةٍ أخرَى ليستْ هي محلَّ النزاعِ بينَ أولئكَ العلماءِ والعلمانيينَ ونحوِهِمْ ، فالعلمانيُّ قد يُسَلِّمُ بما في الإسلامِ من آلياتٍ مدنيَّةٍ وانتفاءٍ للكهنوتِ ، لكنَّهُ سيظلُّ مطالبًا بالركنِ المدنيِّ الرئيسِ ، وهو أنَّهُ لا مرجعيَّةً مطلقةً مُلْزِمَةً تفوقُ سلطتُهَا النِّظَامُ الحاكمُ بسلطاتِهِ .
سُؤَالٌ : ألَا يمكنُ أنْ يُقالَ إنَّ عبارةَ «ذاتَ مرجعيَّةٍ إسلاميَّةٍ» بنفسِ منزلةِ استثناءِ «هوبز»، و«اسبينوزا» ، وتقريرِهِمْ إمكانيَّةَ كونِ النصِّ المقدسِ قابلٌ لأنْ يتحولَّ لقانونٍ مدنيٍّ إذا اختارَهُ الحاكمُ ، فتكونُ الفجوةُ قَدِ انْتهتْ بينَ المصطلحِ في حالتِهِ الفلسفيَّةِ ، وبينَ المصطلحِ كما يستعمِلُهُ فقهاءُ الإسلامِ السياسيِّ ؟
الجوابُ : لَا يمكنُ ذلكَ ، ولَا تنفعُ هذِهِ العبارةُ فِي تعويضِ هذِهِ الفجوةِ ؛ لأنَّ المرجعيَّةَ الإسلاميَّةَ عندَ الفقهاءِ المذكورينَ مُلْزِمَةً للحاكمِ في مناطقَ الإلزامِ المعروفةِ في الشرعِ ، أمَّا اختيارُ الحاكمِ عندَ «هوبز» ، و«اسبينوزا» فهو اختياريٌّ للحاكمِ يسعُهُ أنْ يفعلَهُ ولَهُ ألَّا يفعلَهُ، وهُوَ حينَ يفعلُهُ لا يتعاملُ مع النصِّ المقدسِ على أنَّهُ مرجعيَّةٌ بلْ علَى أنَّهُ مجرَّدُ رأيٍ عقليٍّ رأى الحاكمُ في الأخذِ به مصلحةً سياسيَّةً .
الدَّائِرَةُ الثَّالِثَةُ :
مَا هو حكمُ التعبيرِ عنِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ بأنَّهَا دولةٌ مدنيَّةٌ ؟
الجوابُ : يختلفُ هذا الحكمُ باختلافِ حالتيِ الْاختيارِ ، والحاجةِ ، والاضطرارِ ، ونبدأُ بتقريرِ حكمِ حالةِ الاختيارِ التي يكونُ فيهَا المجتهدُ في سَعَةٍ من العبارةِ ، وليسَ في مقامِ دفعِ شبهةٍ ، أو في معتركٍ سياسيٍّ يضيقُ فيه بابُ الحلالِ المحضِ ..
حالةُ الاختيارِ :
إذَا تقرَّرَ ما بينَّاهُ من الخللِ في الدائرةِ الأُولَى ؛ فإِنَّهُ لا يجوزُ شرعًا القولُ بأنَّ دولةَ الإسلامِ دولةٌ مدنيَّةٌ ، وذلك للأسبابِ التاليةِ :
(1) دولةُ الإسلامِ مبنيَّةٌ على ركنٍ دينيٍّ لا يمكنُ إسقاطُهُ وهو وجودُ المرجعيَّةِ المطلقةِ الملزمَةِ للحاكم والأمة وجميع السلطات المدنية وهي الوحيِ ، وبالتالِي فهيَ تُفارقُ في موضعٍ مؤثِّرٍ أصيلٍ مصطلحَ الدولةِ المدنيَّةِ كما هي دلالتُهُ في لسانِ واضعِيهِ وأكثرِ المتكلمينَ به .
(2) مصطلحُ الدولةِ المدنيَّةِ ليس مصطلحًا محايدًا ، بل هو مصطلحٌ مؤسسٌ على مفاهيمٍ معينَةٍ إذا صحَّ انتزاعُ بعضِهَا منه كاصطلاحٍ خاصٍّ ؛ لَـمْ تجزْ مخاطبةُ الناسِ به مخاطبةً عامَّةً؛ لوجودِ الالتباسِ الشديدِ ، خاصَّةً وأنَّ التَّركيبَ والتقييدَ في معنًى فلسفيٍّ دقيقٍ ليسَ مما يطيقُ عامَّةُ الناسِ ، بل وبعضُ طبقاتِ المثقفينَ = التخلُّصَ مِنْ حالاتِ الالتباسِ المقارنةِ لَهُ ، مما يُرجحُ كفَّة المنعِ في حالةِ الاختيارِ من استعمالِ المصطلحِ والمنع ثابت حتى لو كانَ مُقَيَّدًا بما يوضحُ دلالتَهُ المخصوصَةَ عندَ المتكلمِ ؛إذ الواقع شاهد بوجود الالتباس وجوداً مؤثراً حتى مع التقييد.
(3) الأصلُ في المعانِي الشرعيَّةِ هو استعمالُ لسانِ الشرعِ في العبارةِ عنها ، وعدمِ الخروجِ عنه إلَّا عندَ الحاجةِ: يقولُ شيخُ الإسلامِ : «والتعبيرُ عن حقائقِ الإيمانِ بعباراتِ القرآنِ ، أولَى مِنَ التعبيرِ عنْهَا بغيرهَا ؛ فإنَّ ألفاظَ القرآنِ يجبُ الإيمانُ بها ، وهي تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ ، والأمةُ متفقَةٌ عليها ، ويجبُ الإقرارُ بمضمونِهَا قبلَ أن تُفْهَمَ ، وفيها من الحِكَمِ والمعانِي ما لا تنقضِي عجائِبُهُ ، والألفاظُ المحدثَةُ فيها إجمالٌ واشتباهٌ ونزاعٌ ، ثمَّ قد يُجعلُ اللفظُ حجةً بمجردِهِ ، وليسَ هو قولُ الرسولِ الصادقِ المصدوقِ ، وقد يُضطربُ في معناهُ ، وهذا أمرٌ يعرفُهُ من جرَّبَهُ من كلامِ الناسِ ، فالاعتصامُ بحبلِ اللهِ يكونُ بالاعتصامِ بالقرآنِ والإسلامِ .. ومتَى ذُكِرَتْ ألفاظُ القرآنِ والحديثِ ، وبُيِّنَ معناهَا بيانًا شافيًا ، فإنَّهَا تنتظمُ جميعَ ما يقولُهُ الناسُ من المعاني الصحيحةِ ، وفيهَا زياداتٌ عظيمةٌ لا تُوجدُ في كلامِ الناسِ ، وهي محفوظةٌ مما دخلَ في كلامِ الناسِ من الباطلِ» [«النبوات» : (2/878)].
ويقولُ الشيخُ : «الألفاظُ التي تنازعَ فيها مَنِ ابْتدعَهَا مِنَ المتأخرينَ ، مثلُ لفظِ «الجسمِ» ، و«الجوهرِ» ، و«المتحيِّزُ» ، و«الجهةُ» ونحوُ ذلكَ ، فلا تُطلقُ نفيًا ولا إثباتًا ، حتَّى يُنظرَ في مقصودِ قائلِهَا ، فإنْ كانَ قد أرادَ بالنفيِ والإثباتِ معنًى صحيحًا موافقًا لِـمَا أخبرَ به الرسولُ، صُوِّبَ المعنَى الذي قصدَهُ بلفظِهِ ، ولكنْ ينبغِي أنْ يُعَبَّرَ عنهُ بألفاظِ النصوصِ ، لَا يُعدلُ إلَى هذه الألفاظِ المبتدَعَةِ المجملَةِ إلَّا عندَ الحاجةِ ، مَعَ قرائنَ تبيِّنُ المرادَ بها ، والحاجةُ مثل أنْ يكونَ الخطابُ مع من لا يتمُّ المقصودُ معه إنْ لم يخاطبْ بها ، وأمَّا إن أُرِيدَ بها معنًى باطلٌ ، نُفيَ ذلك المعنَى ، وإن جمعَ بينَ حقٍّ وباطلٍ ، أُثْبِتَ الحقُّ وأبطلَ الباطلُ»([6]) [«منهاجُ السُّنَّةِ» : (2/554)]
(4) استعمالُ هذا المصطلحِ في حالةِ الاختيارِ وشرحِهِ وتفسيرِهِ بالألفاظِ الشرعيَّةِ يجعلُ هذَا المصطلحَ هو الأصلُ ، والألفاظُ الشرعيَّةُ تابعةٌ لهُ ، وهذِهِ طريقةٌ فاسدَةٌ ، يقولُ شيخُ الإسلامِ : «إنَّ معرفةَ ما جاءَ به الرسولُ ، وما أرادَهُ بألفاظِ القرآنِ والحديثِ ، هو أصلُ العلمِ والإيمانِ والسعادةِ والنجاةِ ، ثُمَّ معرفةُ ما قالَ النَّاسُ في هذا البابِ لينظرَ المعانِي الموافقةَ للرسولِ والمعاني المخالفةَ لها ، والألفاظُ نوعانِ : «نوعٌ يوجدُ في كلامِ اللهِ ورسولِهِ» ، و«نوعٌ لا يوجدُ في كلامِ اللهِ ورسولِهِ» ، فيُعرفُ المعنَى الأوَّلُ ، ويجعلُ ذلكَ المعنَى هو الأصلُ ، ويُعرفُ ما يعنيهِ الناسُ بالثاني ، ويُردُّ إلى الأولِ ، هذا طريقُ أهلِ الهُدَى والسُّنَّةِ ، وطريقُ أهلِ الضلالِ والبدعِ بالعكسِ ، ويجعلونَ الألفاظَ التي أحدثُوهَا ومعانيهَا هي الأصلُ ، ويجعلونَ ما قالَهُ اللهُ ورسولُهُ تبعًا لهُمْ »([7])..
وأختم في تأييد المنع بأن أستدل بكلام الأستاذ فهمي هويدي عندما أنكر على الشيخ المودودي استعماله للفظ (الثيو قراطية ) كوصف للدولة الإسلامية([8]) فيقول الأستاذ فهمي : ((وأخيرًا فإن الأستاذ المودودي وقع في «فخ» استخدام مصطلحات غريبة , مُحمّلة بخلفيات التجربة الغربية , التي قد تضر كثيرًا إذا وُضِعتْ في سياق إسلامي ، وهوما يحملُ الإسلامَ بالخلفياتِ ،بغيرِمبررٍ))، وأقول : هذا هو عين ما نقوله في استعمال لفظ (الدولة المدنية).
* هلْ يجوزُ إطلاقُ القولِ بأنَّ دُعاةَ الدولةِ المدنيَّةِ علمانيُّونَ ؟!
الجوابُ : لَا ، لَا يجوزُ هذا حتى يستفسرَ من قائلِهِ عن مُرادِهِ ، فمنْ أرادَ المعنَى الفلسفيَّ العلمانيَّ ؛ استحقَّ الاسمَ المذكورَ ، ومَنْ أرادَ ضِدَّ العسكريَّةِ ، أو ضدَّ البدائيَّةِ المتخلفَةِ ، أو ضدَّ الدينيَّةِ على المعنَى الذي شرحَهُ العلماءُ السابقونَ ؛ فلا يستحقُّ هذا الاسمَ أبدًا .
يقولُ شيخُ الإسلامِ : «فَالْـمَعَانِي الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ يَجِبُ إثْبَاتُهَا ، وَالْـمَعَانِي الْـمَنْفِيَّةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ يَجِبُ نَفْيُهَا ، وَالْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْـمَعَانِي نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَبَ إقْرَارُهَا ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ أَحَدٍ ، وَظَهَرَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ رُتِّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ، وَإِلَّا رُجِعَ فِيهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِبَارَةٌ لَهَا مَعْنًى صَحِيحٌ ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَفْهَمُ مِنْ تِلْكَ غَيْرَ مُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ، فَهَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهْمُهُ» [«مجموع الفتاوى» : (1/110)] .
حَالَةُ الِاضْطِرَارِ:
وهي حينَ يضيقُ مجالُ العبارةِ على المجتهدِ ، إمَّا لكونِهِ في مقامِ ردِّ شبهةٍ ، أو لوجودِهِ في معتركٍ سياسيٍّ يضيقُ فيه بابُ الحلالِ المحضِ ، ويضطرُّ فيه لِاستعمالِ شيءٍ مِمَّا لا يجوزُ استعمالُهُ في حالَةِ الاختيارِ لغلبةِ المصلحةِ المرجُوَّةِ من وراءِ استعمالِهِ ، ولصعوبة استخدام مصطلح وسيط، ولحاجته لاستخدام مصطلح شائع لنفي شبهة تعيق الخطوات الأولى للدولة الإسلامية .
فحينَ يكونُ المجتهدُ في مقامِ ردِّ شبهةِ من يتَّهِمُ الإسلامَ بأنَّهُ دولةٌ دينيَّةٌ «ثِيُوقْرَاطِيَّةُ» ، أَوْ في مقامِ الردِّ على مَنْ يطالبُ بدولَةٍ مدنيَّةٍ ، ويجعلُ الإسلامَ ضدًّا لهَا ، أو في معتركٍ سياسيٍّ يقومُ فيهِ أولى الطائفتينِ بالحقِّ بمحاولةِ جذبِ الجماهيرِ عنْ طريقِ دفعِ الدعايةِ المشوهةِ للإسلامِ ، فيستعملُ هذا المصطلحَ ؛ فإنَّا نرى جوازَ فعلِ ذلك إذا غلبتْ مصلحتُهُ ، ودعتِ الحاجةُ إليهِ وفقَ تقديرِ المجتهدِ مع الحفاظِ ما أمكنَ على قيدِ المرجعيَّةِ الإسلاميَّةِ ، والزيادةِ عليه بمَا يفيدُ الإلزامَ ، فيُقَالُ : «لَا مانعَ من دولةٍ مدنيَّةٍ مرجعيَّتُهَا الملزِمَةُ هي الإسلامُ» .
يَقُولُ شيخُ الإسلامِ مُقِرًّا :«وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُدْعَى بِهَا ، وَبَيْنَ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ فَهُوَ ـ سُبْحَانَهُ ـ إنَّمَا يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ، كَمَا قَالَ : ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف : 180] ، وَأَمَّا إذَا احْتِيجَ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : «لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ ، وَلَا مَوْجُودٍ ، وَلَا ذَاتٍ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا» ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَقِيلَ فِي تَحْقِيقِ الْإِثْبَاتِ: «بَلْ هُوَ ـ سُبْحَانَهُ ـ قَدِيمٌ ، مَوْجُودٌ ، وَهُوَ ذَاتٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا» ، وَقِيلَ : «لَيْسَ بِشَيْءِ» ، فَقِيلَ : «بَلْ هُوَ شَيْءٌ» ؛ فَهَذَا سَائِغٌ» [«الفتاوى» : (9/30)].
أمَّا استعمالُ المصطلحِ مجرَّدًا عنِ القيدِ ، فلا نرى جوازَهُ إلا في رتبٍ أعلَى مِنَ الِاضْطرارِ ، وحيثُ يؤمنُ التلبيسُ على عامَّةِ الناسِ، أو توجد مصلحة عظيمة تغلب مفسدة التلبيس مع السعي في كشف التلبيس بطروحات منفصلة ، ويكونُ ذلكَ من جنسِ المعاريضِ التي يُدفعُ بها الضررُ والظلمُ ، أو يُرجَى منها مصلحةٌ عظيمةٌ يغلبُ على الظنِّ تحققُهَا، خاصة مع احتياج المجتهد لتفادي الضغوط المضرة على الخطوات الأولى في السعي لبناء الدولة الإسلامية.
قال شيخ الإسلام : «الْـمَعَارِيضُ ، وَهِيَ : أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا ، وَيَتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ , وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ ، أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ , أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ , أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ أَحَدِهِمَا , أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ شَرْعِيَّةٍ ، فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ ؛ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيهِ , أَوْ لِكَوْنِهِ لَـمْ يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ الْـمَعْنَى , أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ مَعْنًى ؛ فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا فِيهِ بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ , أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ ، أَوْ بِالْـمُطْلَقِ الْـمُقَيَّدَ , أَوْ يَكُونَ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْـمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ بِعُرْفٍ خَاصٍّ لَهُ , أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ , أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ مَعَ كَوْنِ الْـمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ , فَهَذَا ـ إذَا كَانَ الْـمَقْصُودُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ ـ جَائِزٌ ..
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا كَانَ دَفْعُ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَاجِبًا ، وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ ، مِثْلُ التَّعْرِيضِ عَنْ دَمٍ مَعْصُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَهَذَا الضَّرْبُ نَوْعٌ مِنَ الْحِيَلِ فِي الْخِطَابِ , لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْـمُحَرَّمَةَ مِنَ الْوَجْهِ الْـمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَالْوَجْهِ الْـمُحْتَالِ بِهِ ؛ أَمَّا الْـمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَا ، فَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ غَيْرِ ضَرَرٍ مُسْتَحَقٍّ , فَإِنَّ الْجَبَّارَ كَانَ يُرِيدُ أَخْذَ امْرَأَةِ إبْرَاهِيمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ , وَهَذَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ , وَكَذَلِكَ بَقَاءُ الْكُفَّارِ غَالِبِينَ عَلَى الْأَرْضِ , أَوْ غَلَبَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ ، فَلَوْ عَلِمَ أُولَئِكَ الْـمُسْتَجِيرُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ , وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْـمَعَارِيضِ الَّتِي يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ؛ فَإِنَّ عَامَّتَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حَذَرًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ عَظِيمٍ عَلَى الْأَخْبَارِ ، فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهَا كِتْمَانَ مَا يَجِبُ مِنْ شَهَادَةٍ , أَوْ إقْرَارٍ , أَوْ عِلْمٍ , أَوْ صِفَةِ مَبِيعٍ أَوْ مَنْكُوحَةٍ , أَوْ مُسْتَأْجَرٍ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهَ كُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ ؛ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ ، بَلْ وَاجِبٌ إِنِ اضْطُرَّ إلَى الْخِطَابِ ، وَأَمْكَنَ التَّعْرِيضُ فِيهِ ـ كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَعْصُومٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ ـ , وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا ، أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا , وَكَانَتِ الْـمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ ، كَالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ عَزْوُهُ ، فَالتَّعْرِيضُ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ هُنَا , وَإِنْ كَانَتِ الْـمَصْلَحَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ , فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْإِظْهَارِ ـ وَالتَّقْدِيرُ : أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِذَلِكَ الضَّرَرِ ـ جَازَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا ... وَفِي الْجُمْلَةِ ، فَالتَّعْرِيضُ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَهِمَ مِنْهُ السَّامِعُ خِلَافَ مَا عَنَاهُ الْقَائِلُ ، إمَّا لِتَقْصِيرِ السَّامِعِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ , أَوْ لِتَبْعِيدِ الْـمُتَكَلِّمِ وَجْهَ الْبَيَانِ , وَهَذَا غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي تَجْهِيلِ الْـمُسْتَمِعِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ , وَتَجْهِيلُ الْـمُسْتَمِعِ بِالشَّيْءِ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ عَمَلَ خَيْرٍ مَعَهُ , فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ ـ كَانَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ خَيْرًا لَهُ , وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَهَّمَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ إذَا لَـمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا يُطْلَبُ مَعْرِفَتُهُ , إنْ لَـمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ ، بَلْ مَصْلَحَةً لِلْقَائِلِ ، كَانَ أَيْضًا جَائِزًا , لِأَنَّ عِلْمَ السَّامِعِ إذَا فَوَّتَ مَصْلَحَةً عَلَى الْقَائِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي عَدَمِ عِلْمِهِ , وَإِنْ أَفْضَى إلَى اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَهُ , أَوْ لَـمْ يَعْرِفْهُ , فَالْـمَقْصُودُ بِالْـمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ , أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ , وَنَصَبَ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ أَصْلًا وَقَصْدًا , فَإِنَّ الضَّرَرَ قَدْ يُشْرَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ دَفْعَهُ , وَيَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ , وَلَـمْ يَتَضَمَّنْ الشَّرْعُ النَّهْيَ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ))([9])..
تنبيه : فيما نحن فيه الآن : لابد من مراعاة الدقة التامة،وإطلاق لفظ الدولة المدنية إثباتاً لها أو نفياً كله معيب (إلا اضطراراً)، وليس قول القائل الإسلام يدعو للدولة المدنية بأقل خطراً من نفي المتكلم صفة المدنية عن الإسلام أو جعله الإسلام في مقابلها..
(6)
مسلمة إلزامية موضوعية لا يسع دعاة الدولة المدنية إلا التسليم بها:
1- إذا كان نص فلاسفة الدولة المدنية كتوماس هوبز حين يقول : «إنَّ الكتابَ المقدسَ لا يصبحُ قانونًا إلَّا إذا جعلَتْهُ السُّلطةُ المدنيَّةُ الشرعيَّةُ كذلِكَ» (ص/258) .) 2- واسبينوزا حين يقول : «إنَّ الدينَ لا تكونُ لَهُ قوةُ القانونِ إلَّا بإرادةِ مَنْ لَهُ الحقُّ في الحكمِ» [(ص/422) ، وانظرْ : (ص/424)] . 3- ونفس الحقيقة يقررها أحد أشهر العلمانيين ودعاة الدولة المدنية المصريين وهو المستشار سعيد العشماوي حين يقول : ((الحكومة المدنية أو نظام الحكم المدني هو النظام الذي تقيمه الجماعة، مستنداً إلى قيمها، مرتكزاً إلى إرادتها، مستمراً برغبتها، حتى ولو طبق أحكاماً دينية أو قواعد شرعية)) [ الخلافة الإسلامية (ص/18)].
هذه النصوص الثلاثة بينة جداً في أن الحاكم أو البرلمان أو حتى الشعب بالديمقراطية المباشرة إذا اختار أحكاماً دينية وجعلها قوانين للحكم = أن ذلك لا يُخرج الدولة عن وصف المدنية؛ لأن اختيار السلطة العليا لها هو الذي أكسبها صفة الإلزام، وهذه هي آليات الدولة المدنية، ورفض الأحكام الدينية التي اختارها الشعب أو البرلمان لمجرد أنها دينية سيكون حينئذ عدواناً على إرادة الشعب ومصادرة لها واستبداد لا يتفق وأبجديات المدنية.
ورغم أننا من ناحية الأصول الشرعية نرى أن الأحكام الشرعية ملزمة بنفسها لا تتوقف إلزاميتها على استفتاء أو اختيار من أحد = إلا أننا نتنزل معكم لنلزمكم بأبسط أبجديات الدولة المدنية التي تؤمنون بها فنقول : خلوا بين الشعب واختياره، ولا تصادروا إرادته، وليطرح كل بضاعته ، وما تختاره الأمة = لا يسعكم إلا التسليم به؛ لأن هذه هي الآليات التي تؤمنون بها، وإن أبيتم فالسؤال قائم : بأي حق إذاً تمارسون المدنية والحرية بهذه الانتقائية العجيبة وذلك التحيز غير الموضوعي ؟!!
هذا آخر ما أردتُ تقريره، والحمد لله رب العالمين..
وكتب.. أبو فهر السلفي عصر السبت السادس عشر من ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين بالتأريخ الهجري الموافق 19/2/2011 م.
( [1]) وانظرْ : ((الأعمال الكاملة-الكتابات السياسية)) دراسة الدكتور محمد عمارة (ص/103)،وانظر : الرد على هاناتو في المجلد الثالث من الأعمال الكاملة . ( [2]) يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين كان يرد على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الدِّيني): ((يقع في الوهم أن الحكم الدِّيني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدِّين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة. وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة. ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة. وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم! وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن. فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدِّين). وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلِّقة بالكتابوالسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومنالمعرفة المادية وغير المادية. والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مُرشِحا للحكم في أزهى عصور الإسلام. وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بنالجراح؟ الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم -أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدمدينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينهلا غبار عليه. وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما. والصورة الصادقة للحكومة -كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنونأشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم. صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفَهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب. صورة أفرادلهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب فيالحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم ومَلَكاتهم في مناحيالدنيا وميادين العمل. إن الحكم الدِّيني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ... ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء))[من هنا نعلم (ص/27)].
( [3]) يقول سيد قطب في ((المعالم)) (ص/60) : ((ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجالالدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة)) .
( [4]) وقد يُعتذر عنهم –وهو وجيه- بأن سياق كلامهم هو جمع بين التقرير وبين الحوار ،وأن من قرأ السياق بتمامه سيصل لمفهوم الدولة المدنية الخاص بهم وسيفهم أنه خاص بهم ،وأن مرادهم ليس نفي أصل إيراد العلماني وإنما مرادهم إثبات القدر المشترك بين المدنية بالمعنى الفلسفي وبين دولة الإسلام.
( [5]) والعلماني يقع في نفس المغالطة بصورة أسوأ،حين يصر على أن الإسلام دولة دينية بالمعنى محل البحث الذي هو الثيوقراطي القائم على إحدى النظريات السابقة.
( [6]) وانظرْ : (2/611)، و «الدرءَ» : (1/223، 229، 242) ، و«الفتاوَى» : [(5/229»، و (6/36) ، (16/426) ، (17/304) ] .
( [7]) انظر : تفسيرُ سورةِ الإخلاصِ «مجموعُ الفتاوَى» : (17/355)، وانظر: الفرقانُ بينَ الحقِّ والباطلِ «مجموع الفتاوى » : (13/ 145).
( [8]) طريقة الشيخ أبي الأعلى المودودي هي عكس طريقة الفقهاء السابقين، فهم جعلوا الحكومة الإسلامية مدنية بقيد، وهو جعلها دينية ثيوقراطية بقيد ،فيقول : ((الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافاكليا، فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعونللناس قانونا من عند أنفسهم حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراءالقانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أوالمشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيامبشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديدلآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذاالطراز من نظم الحكم، لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحتسلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراءالمسلمين، وبيدهم يكون عزلها من نصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها فيالشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانهطبقة أو أسرة مخصوصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيانهكل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين ،فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي (ديمقراطياً )). انظر : ((نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)) لأبي الأعلى المودودي(ص/34-36)،وانظر : عرض رأيه ونقده من وجهة نظر الطبقة التي عرضنا رأيها عند فهمي هويدي في ((القرآن والسلطان)) (ص/139) ،والقرضاوي في ((التطرف العلماني)) (ص/80-81).
( [9]) ((بيان الدليل)) (ص/203).
تسهيلاً على زوارنا الكرام يمكنك الرد من خلال تعليقات الفيسبوك
|
|