خبر صغير فى جريدة يومية
مر
على بائع الجرائد كعادته كل يوم .. ابتاع جريدته اليومية وإحدى الجرائد
الأسبوعية التي يحرص على قر ائتها رغم ارتفاع ثمنها , عند الدفع أخرج ما في
جيبه من جنيهات متبقية من مرتبه الشهري تذكر أمه وهى تقول عندما تجوع
أخرج إحدى كتبك وتغذى عليها وعندما تشعر بالبرد افتح واحدة من جرائدك وتدفأ
بداخلها.
نظر إلي الكتاب الذي كان معه وتخيله قطعة لحم مشوي , ثم نظر
إلى الجرائد التي اشتراها وتخيلها ملابس شتوية جديدة ابتسم وهو يمنح بائع
الجرائد ثمن الجريدة ويقول له :
متى سيكون موسم التخفيضات ؟
نظر إليه البائع في بلاهة وقال له : تخفيضات إيه يا أستاذ , هم هايعملوا أوكازيون على الجرايد كمان ؟
ربت على كتف البائع وقال له : لاتشغل بالك كل شىء جائز.
ترك
البائع يتحدث مع زوجته عن أن الحكومة قررت أن تعمل أوكازيون على الجرائد
والمجلات , وعاد هو الى التفكير الشهرى فيما سيفعله بما تبقى معه من باقى
مريتبه , هكذا كان يطلق على ما كان يتقاضاه من عمله الذى لا يحبه ولكنه
مجبر عليه .. كم مرة فكر فى أن يترك ذلك العمل الحكومي الروتيني الممل ولكن
أمه كانت دائما تقول له :
يا بنى البلد فى أزمة والشباب مش لاقى شغل
واحنا عملنا المستحيل علشان تشتغل فى الوظيفة دى , اصبر .. اصبر ان الله مع
الصابرين .. وتذكر الرد الذي كان دائما ما يقوله لها عندما تحدثه ذلك
الحديث .
كان يردد فى صوت عالى ها أنا ذا يا أمى صابر .. صابر منذ خمس
سنوات أتجرع كل يوم جرعات الصبر صباحا وأمزجها مع حبات الأمل التى تذوب فى
بركان الملل والألم الذى أعيشه فى وظيفة لاأحبها ودنيا ليست لى ولست لها ..
أنا يا أمى مكانى مع هؤلاء وأشار الى الكتاب والجريدة , وظيفتي هى الكتابة
, غذائي هو القراءة , سيفي هو قلمى , ودمى هو حبر أسطر به كتاباتى , أنا
يا أمى أعيش مع شوقى وحافظ وجويدة ونزار , أطرق باب العقاد وطه وأنيس
فيكشفوا لى بعض الأسرار.. الوظيفة سجن يا أمى وللأسف الشديد أنا يا أمى من
الأحرار.
هنا كان ينهى مرافعته التى كان يترافع بها كل شهر أمام أمه ,
وكانت تفعل هى نفس الشىء بأن تتركه وتخرج من الغرفة قائلة له .. خلى طه
باشا يسلفك كم جنيه عشان تكمل بيهم باقى الشهر .
دخل الى غرفته التى علق
على بابها من الخارج ( البرج العاجى .. ممنوع الدخول لأصحاب الأفكار
السطحية ) تلك العبارة التى كان والده يتشاجر معه بسببها لأنه كان يمنع كل
اخوته من الدخول اليها , فتح الجريدة اليومية , نظر سريعا الى الأخبار
السياسية ولم يهتم , قلب باقى الصفحات .. دائما ما كان أصدقائه يبتاعون تلك
الجريدة بسبب الوظائف الخالية التى تنشرها ورغم أنهم لم يلتحقوا الى الآن
بأى وظيفة عن طريقها الا أنهم مايزالوا يبتاعونها , ردد بصوت عال..
الصبــــــر.
أثناء تجواله فى صفحات الجريدة لفت انتباهه اعلان صغير ( جريدة تطلب محررين للعمل بها, لايشترط المؤهل ولكن شرط الموهبة )
قفز من على كرسيه وكانه وجد ضالته التى يبحث عنها .. قرأ الإعلان مرة ثانية .. التقط رقم الهاتف وطلبه سريعا
هو : جريدة المستقبل ؟
صوت أنثوى رقيق : نعم يافندم .
هو: أنا أتحدث بخصوص اعلان اليوم المنشور فى الجريدة اليومية .
نفس الصوت : يمكنك أن تتفضل غدا من الساعة 12 ظهرا وحتى الساعة 6 مساء والعنوان هو .........
كتب
العنوان فى ورقة على مكتبه ثم استدار نحو مكتبته الشامخة التى تحتل نصف
الغرفة تقريبا وابتسم وهو يتخيل اسمه على غلاف كتاب بين كتب عظماء الكتاب.
دائما
كان يمنى نفسه بأن يتحول من مستهلك الى منتج من مجرد قارئ الى مقروء , كان
بداخله براكين من الكتابات والطاقات والثقافات التى تتصارع من أجل أن تخرج
من رأسه التى أعلنت احتجاجها الرسمى على ذلك الصراع اليومى الذى يدار
بداخلها من أفكار ومناقشات وحوارات .
فتح درج مكتبه الخاص المكتظ بمئات
الصفحات من كتاباته الباقية التى كتبها طوال عمره الأدبى , نظر اليهم وتحسر
على باقى الكتابات التى قام بحرقها وتمزيقها فى لحظة يأس من لحظاته التى
لاتنقطع ولولا أن لحق به والده وأخمد النيران التى كادت تصل الى جسده وباقى
أثاث غرفته لحدث مالا يحمد عقباه .
احتار فيما يختار ولكن جمع بعض منها
ووضعها فى حافظة بلاستيكية وأرخى جسده على فراشه فى لحظة استرخاء نادرة
حتى ان فراشه قد تعجب منها !!!!
فى الصباح ذهب الى عمله فى قمة نشاطه مما أثار استغراب كل زملائه ضاما الى صدره الحافظة التى تحوى ابداعاته .
لم
يكن أحد من زملائه فى عمله اليومى الممل يعلم شيئا عن أنه يكتب فتطوع
أحدهم وسأله عن محتوى الحافظة فحكى له الموضوع بعد تردد ولكن ما شجعه أكثر
هو أنه أخرج بعض القصص من الحافظة وأخذ يقرأها .
انتظر فى توتر أن ينهيها ولكنه أخرج قصة أخرى وانزوى فى أحد أركان الغرفة منسحبا من ضجيج العمل الصاخب وأخذ يقرأ بنهم عميق .
حينما
انتهى وجده ينظر اليه باعجاب شديد ؤيحييه تحية قارىء الى كاتب كبير , كادت
دموعه تسقط من فرط الفرح , شعر بأن عمره الذى قضاه مابين الكتب لم يضع
هباءا .
انتشر خبر القصص بين كل الزملاء , وكانت ردود الأفعال متباينة
البعض أبدى اعجابه والبعض أبدى ببعض الملاحظات القيمة , والآخر نظر الى
القصص فى بلاهة لاتخلو من الحقد.
استأّذن مبكرا من العمل حتى يلحق بالجريدة مصحوبا بدعوات البعض , وتشجيع البعض , سخرية الآخر ين .
أخذ
يسترجع ماحدث فى العمل بعد أن شعر بالاطمئنان من ردود الأفعال , وصل الى
الجريدة فى الموعد المحدد , دخل بثقة الى السكرتيرة ذات الصوت الرقيق ,
أملى لها الاسم وأشارت اليه بالانتظار حتى يأتى دوره .
جلس ناظرا الى
الجالسين متخيلا الصراع الذى سيواجهه عند تقديم أعماله ولكن تمتم بالدعوة
التى كانت أمه تدعوها له دائما عند اقباله على أى أمر جديد ( اللهم ان كان
خيرا فاجعله لى وقربه منى , وان كان شرا فابعد عنى ولاتجله لى ) هنا استراح
قلبه وذهب فى حلم استيقاظى جميل .
افاق من حلمه على صوت السكرتيرة الرقيق معلنة أن دوره قد حان , دق قلبه بعنف ولكن تذكر نظرات الاعجاب فى عين زملائه فى العمل .
دخل
الى المكتب الأنيق الذى يجلس علي مقعده الفخم رجل أنيق بحلة فخمة , أشار
له فى احترام أن يجلس , طلب منه أن يعرفه بنفسه , قدم له المعلومات الكافية
عن نفسه .
سأله عن علاقته بالأدب ؟
أجابه : أنا قارىء منذ الصغر وتربيت على الكتاب وشعرت ببعض الموهبة فبدأت أخرجها على الورق.
سأله : ما هو تخصصك ؟ أجابه : أنا محاسب .
سأله
: فى الحقيقة أريد أن أعرفك بطبيعة العمل الذى نريده , فى البداية سيكون
عملك هو أن تنزل الى موقع الأحداث لتغطى الحوادث التى تقع والمهم عندنا ليس
مصداقية الخبر ولكن أن يكون ساخن ويحتوى على مايجذب القارىء , اغتصاب ,
شذوذ , خيانة وما الى ذلك وبما أنك تكتب القصص فلن يضر أن تضع فى الحوادث
بعض الحبكات الدرامية وأظن أنك خبير فيها , وأخذ يضحك ضحكات ارتج بها مكتبه
الفخم .. حاول أن يقاطعه ولكنه أكمل .. اذا أثبت كفاءة سيتم تحويلك الى
قسم المراسلات حيث ستقوم بالرد على الخطابات التى تصل الى الجريدة وان لم
تكن هناك خطابات وهذا ماسيحدث فى الشهور الأولى فأيضا استعمل خيالك العبقرى
هذا فى كتابة الخطابات بأسماء وهمية وأنت أيضا من تقوم عليها , وأيضا ارتج
مكتبه لضحكته البلهاء .
بالنسبة للمرتب .. هنا قاطعه بأن وقف من على
المقعد ضاربا بيده المكتب الفخم مما جعله برتج مشوحا بيده الأخرى قائلا :
أنا ياسيدى الفاضل لم أتخيل يوما أننى أعمل فى هذا المجال من أجل المال
ولكن كل هدفى أن ترى كتاباتى النور , أن تولد بعد كل مراحل الولادة الفاشلة
التى مرت بها , أنا كاتب كل ماامله هو أن يكون لى جزء صغير فى احد اركان
الجريدة لأخرج فيها ابداعاتى وكتاباتى التى حوربت من أجل تكوينها وحاربت من
أجل الحفاظ عليها , كل ..
قاطعه الرجل الجالس على المكتب الفخم : أنت
تحلم أتريد هكذا بكل سهولة أن تكتب فى جريدة ويكون لك زاوية فيها , أتعلم
كم من الوقت والمجهود أخذت كى أكتب مجرد خبر صغير فى صفحة الحوادث , أنت
تحلم
نظر اليه فى تحدى وقال : أعتقد أن أحلامة ستحقها قوة ابداعاتى وأنت حتى الآن لم تقرأ سطر واحد منها هاك هى اقرأها ثم احكم .
ناوله
الحافظة وأخذها منه فى اهتمام ثم بحركة مفاجئة قذف بها بطول ذراعه فى
الهواء , جن جنونه وهو يلتقط قصصه وهى تتهاوى أمامه , حاول أن يدافع عنها
بالاشتباك معه ولكن رجال الأمن منعوه وجذبوه الى الخارج .
احتضن الحافظة
كما تحتضن الأم وليدها الضعيف وأخذ يزيل الغبار عنها فى حنان غريب , سار
دون هدف وأخذت الأسئلة تتصارع فى رأسه : مالذى سيقوله لأمه وزملائه فى
العمل ؟
لماذا يقرأ ؟ لماذا يكتب ؟ من سيدافع عن الثقافة والأدب فى ظل وجود مثل هؤلاء الأفاقين ؟
وصل الى احدى دور السينما ووجد التصارع على شباك التذاكر قد وصل الى حد الاشتباك بالأيدى .
ذهب
الى سور الأزبكية حيث المكان الذى يجد فيه متنفسه فهو يعشق الكتاب والكتب
والمكتبات فوجىء عند وصوله بأن عم عبد الله صاحب المكتبة التى يداوم على
شراء الكتب منها معلق على بابها نصف المفتوح ورقة مدون عليها
( تصفيات ,
أى كتاب بخمسين قرشا ) جرى نحو عم عبد الله الذى استقبله بابتسامة مكسورة
على وجه مصدوم من جراء غبار الأيام السوداء التى عاشها .
سأله ماذا يحدث ؟
أجابه : يابنى لم أعد أستطع دفع الايجار , أو شراء المجلات الفاضحة التى تلقى الرواج حاليا .
نظر اليه فى صدمة وقال : أتبيع شوقى ونزار وعباس ياعم عبد الله بخمسين قرشا ؟
أجابه الرجل وهو يبعد وجهه عنه : يابنى عندما يجوع أولادى لن يأكلهم شوقى ولا نزار بل سيطعمهم المال .
هنا حضر شخص فج عديم الملامح وأخبر عم عبد الله أن عليه تسليم المحل غدا .
سأله : من هذا ؟
أجابه : هذا يا سيدى الرجل الذى سيؤجر المجل بدلا منه .
سأله : وهل ستكون مكتبة أيضا ؟
ضحك عم عبد الله حتى سالت الدموع من عينيه وقال : نعم .. نعم .. مكتبة ولكن ليس لبيع الكتب .
تعجب وقال : كيف مكتبة وكيف هى لن يباع فيها كتب ؟
أجابه وهو مايزال يضحك : مكتبة لبيع الملابس الداخلية .
خرج من عند عم عبد الله والدني تدور به وهو لايدور فيها , شعر أنه ثابت فى مكانه وأن الدنيا تفتح أبوابها ليخر ج منها .
وصل
الى منزله قصد غرفته دون أن يتحدث مع أحد انتزع العبارة التى كانت معلقة
على الباب , أغلق الباب خلفه , ارتمى على الكرسى الموجود أمام مكتبه ومواجه
لمكتبته , فتح درجه وأخرج الملف الذى يحوى كتاباته ,تذكر بائع الجرائد
وباقى المرتب وحديث أمه فدمعت عيناه , ثم تذكر ماحدث فى الجريدة , فجأة ظهر
أمامه وجه عم عبد الل وهو يضحك ويخبره ببيعه للمحل . وتذكر الرجل الى
سيحول المكتبة الى محل لبيع الملابس الداخلية .
خانت أعصابه ولم
يتمالك نفسه وقف أمام مكتبته وأسقط مافيها من كتب , كونت الكتب حوله دائرة
شبه متساوية وقف فى وسط الدائرة وهو لايعى مايفعله , وضع كل كتاباته فى
المركز تماما ووقف عليها , أخرج من جيبه علبة كبريت وبدأ يشعل الأعواد فى
تتابع نيرانى غريب ويلقى كل عود على مجموعة من الكتب اللتفة حوله كمهرج
وحوله الفضوليون وأخذ يردد مع كل عود ّّ الوداع يا طه , الوداع يا عقاد ,
لن أنا أوقد القنديل ياحقى , هذه ليست دنيتى يامازنى , لن تعشقنى نسائك
يانزار , ملعونة تلك الأفكار ياأنيس , الوداع الوداع الوداع .
بدأت
النيران تلتهم الكتب فى تتابع غريب وبدأت تصل الى أوراقه التى يقف عليها
والى أثاث الغرفة , حاولوا الدخول اليه ولكن كان الباب مغلق وعندما تمكنوا
من كسر الباب كانت المسرحية قد انتهت .
فى أحد أركان الجريدة اليومية خبر صغير لايتعدى الأسطر الخمس .
( انتحار شاب لأسباب مجهولة )