قانون بإطلاق الرصاص على كل من بلغ الستيندار هذا الحوار بيني وبين سائق تاكسي؛ عندما كنت في الطريق لمحطة مصر أنا وأبنائي للسفر إلى الإسكندرية..
كان
هذا في العيد، وكان الطريق مزدحما بشدة ونحن مرتبطون بموعد قطار، أخذ ابني
يحثُّ السائق على الاستعجال حتى نلحق بالقطار، وفجأة وجدنا الطريق متوقفا
تماما، ورأيت السائق يغلي ويزبد بل ويسخط ويلعن..
انتبهت فوجدت
امرأة عجوزا ربما تكون قد تخطت 80 عاما، ويحاول أحد المارة توصيلها من جانب
الطريق إلى الجانب الآخر، وهي تسير بصعوبة بالغة محنية الظهر؛ وهو ما أدى
إلى توقّف الطريق..
مظهر يثير الشجن، وموقف الفتى الذي يساعد العجوز
شيء رائع يحمده كل من يراه، إلا هذا السائق الذي كان في حالة فظيعة من
الضيق والعصبية، والتفت إليّ وصاح:
"والنبي يا حاجّة تقولي لي الست دي خارجة ليه؟ عشان توقّف الشارع كله، مش أحسن لها تقعد في بيتها؟!".
أنصتُّ
إليه، ووجدت أن كلامه به الكثير من الصواب؛ إلا أنني عاودت التفكير أنه
ربما ليس لديها من يقوم على حاجاتها، فماذا تفعل؟ وهممت أن أقول له ذلك
لولا أنه أكمل: "اللي زي دي المفروض تتحبس في البيت وماتخرجش منه خالص"..
ردّدت على الفور: يمكن فيه حاجة ضرورية ومالهاش حد يقضيها لها..
ردّ بقمة العصبية: لا اللي زي دي المفروض تنضرب بالرصاص!!!!
صمتّ في تعجب وغضب من هذه الاستهانة بكبار السن، وقبل أن أفتح فمي، قال بنفس العصبية:
أنا باتكلم جدّ يا حاجة مش باهزّر، المفروض الحكومة تصدّر قانون إن اللي وصل لسن الستين ينضرب بالرصاص!!
حتى
الآن ومع قمة عصبيته إلا إنني كنت متخيلة أنها مزحة سخيفة حتى استطرد:
صدقيني يا حاجة الحكومة إذا أصدرت قانون إن اللي يوصل للستين ينضرب بالرصاص
الدنيا هاتروق والشوارع تفضى والغلا يروح، وتبقى الحاجة رخيصة والشباب
يقدر يعيش ويلاقي شغل..
هنا بدأت أشك في أن الرجل به شيء من اللوثة،
ومع هذا هتفت به قائلة: يعني أنا عندي 64 سنة المفروض بقى يكونوا ضربوني
بالرصاص من 4 سنين!! ردّ بقمة الثبات.. أيوه!!
صحت فيه بشيء من
العصبية: أنت عندك كام سنه؟ ردّ: 50 سنة قلت يعني باقي لك 10 سنين وتنضرب
بالرصاص، قال بنفس الثبات.. أيوه كفاية أوي كده!!
لحقته ابنتي هذه
المرة بقولها بغضب: طيب أنا عندي 30 سنة، ونفسي بقى يطبقوا القانون بتاعك
ده على اللي عندهم 50 سنة عشان تنضرب بالرصاص بكره!!
صاح بترحيب شديد: أيوه والله أنا ما عنديش أي مانع يعملوه من 50 سنة، خلي الحياة تبقى هادية والناس تعرف تعيش!!
صمتنا
وقد تأكّدنا أن الرجل ليس على ما يرام، إلى أن وصلنا إلى المحطة وبدأنا
الهبوط من التاكسي الذي صاح بي سائقه وأنا أهبط: فكّري في كلامي ده يا
حاجّة، أنا والله مش باهزّر أنا بتكلم جد!!!!
هبطنا جميعا من
التاكسي والابتسامة لا تفارق شفانا، ونحن نضرب كفّا بكف وفي تعجب شديد من
أمر هذا الرجل، أخذنا طريقنا داخل المحطة في ممر طويل وأنا متكئة على ذراع
ابنتي مرة وابني مرة أخرى..
هبطنا سلالم وصعدنا سلالم حتى وصلنا إلى
رصيف المحطة الذي سرنا عليه طويلا حتى ركبنا القطار، وجلست على المقعد
الخاص بي وأنا على درجة شديدة من الإعياء والتعب والإنهاك..
شردت
قليلا ثمّ تبسمت وهتفت بأولادي: تتصوروا الراجل ده عنده حق.. أنا تعبت. مش
كانوا يضربوني بالنار أحسن.. وانطلقنا ضاحكين من الموقف.
هذه رواية
حقيقية مائة بالمائة، رويتها لكم كما حدثت بالضبط، ولكنها أخذت تلف وتدور
في رأسي، من المؤكّد أن الرجل غير متزن بتصميمه على قتل من يبلغون الستين
بالرصاص.. ولكن بدأت الأفكار تتداعى وتسوقني إلى أفكار كثيرة..
مثلا
كيف لرجل مثل مبارك الرئيس المخلوع وكان قد تخطى الثمانين وهو ما زال يريد
الحكم، مع أنه لا بد أن يكون تدهور صحيا ونفسيا وعقليا أيضا.. وكيف هناك
من يحزنون على رحيله حتى الآن، فلو كان جرمه الوحيد الذي فعله هو بقاؤه في
الحكم طوال هذه المدة وحتى هذه السن لكان هذا سببا وحيدا وكافيا لخلعه.
وإلا لما سنّ قانون المعاش في الستين من العمر، أليس لأن سن الستين يبدأ الإنسان فيه في حالة تدنّي صحي ونفسي وعقلي أيضا؟
وفكرت أيضاً أنه مع الأسف كل مرشحينا الجدد للرئاسة قد تخطوا الستين.. فلماذا لا تتقدم الكوادر الجديدة لتأخذ مكانها..
بالتأكيد
ليس معنى هذا ضرب من وصل لهذا السن بالرصاص، ولكن يجب أن يتوجهوا لأشياء
أخرى، فإن كانوا ما زالوا بصحة عقلية جيدة فليمارسوا أعمالا لا تحتاج إلى
مجهود أو فليكونوا مستشارين للصغار من منازلهم..
وإن تدهورت الصحة العقلية فليستمتعوا بالسن الجديدة والهدوء الذي سيحظون به.
هذا
يدفعنا إلى أنه يجب على الحكومة أن تقوم بتوفير الخدمات المطلوبة بشكل
متميز لكل من وصل هذه السن ومراعاته بطريقة أكثر تقدما وتفاعلا ليس بالكلام
ولكن بالفعل..
وهذا بالإكثار من الخدمات التي تخص كل من وصلوا لهذه السن، وخاصة من لا يجدون من يعولهم ويعتمدون عليه..
ولكن
سألت نفسي سؤالا آخر: كيف ونحن في هذه الظروف تستطيع الحكومة تأدية هذه
المتطلبات إلى هذه الفئة من الناس، وفئات أخرى لها متطلبات خاصة؛ مثل ملاجئ
الأيتام التي أصبحنا في وقتنا الحالي نسمع أن الصغار الأيتام فيها لا
يجدون قوت اليوم أو العلاج؟
ومثلهم ذوو الحاجات الخاصة والكثير من هذه النوعية التي ليس لهم حيلة في أنفسهم؛ بل يحتاجون إلى من يقف بجانبهم.. ولكن كيف؟
كيف والبلد أصبح على شفا حفرة من النار لا قدّر الله، ولا كان أن تقع فيها، ولا أحد يسمع ولا أحد يرى.. كمن ينفخ في قربة مقطوعة..
هل أصبحنا جميعا نتحدث مثل هذا الرجل المجنون الذي يريد قتل الناس؛ لتصور
أنه بمجرد الخلاص من الفئة التي وصلت للستين سوف تصبح الدنيا راحة وهناء
وسعادة..
بالضبط كما يفكر الجميع في مصلحته، والتي يتخيل أنه بمجرد
حلها سوف يكون كل شيء على ما يرام مثل المثل الذي يقول: "الشبعان لا يشعر
بالجوعان"..
نحن لا نحتاج أن نفكر في ضرب العجائز بالرصاص كي نصلح الوطن..
نحن نحتاج لمنظومات حقيقية في دولة مستقرة، تحترم العجائز وتعطيهم حقوقهم وتحترم الشباب وتجعلهم قادة المستقبل..
كي يستطيع هذا الوطن أن يقوم ثانية دون رصاص.