فشلنا جميعاً ولم ينجح أحد
بعد انتهاء الحلم الجميل الرائع الذى عاش فيه الشعب المصرى طوال ثمانية عشر يوماً، أفاق المصريون بعد شهور على واقع أليم كاد يطيح بالثورة وبأحلام الثوار وطموحات الشعب فى العيش والحرية والكرامة الإنسانية. وأول الأخطاء، الذى شاركنا فيه جميعاً، كان ترك الميادين بعد رحيل رأس النظام، متوهمين أنه برحيله يكون النظام قد سقط، فأثبتت لنا الأيام أن هذا كان خطأ فادحاً ووهماً، فقد ظل النظام محافظاً على نفسه بنفس الآليات والرموز والشخصيات من وزراء ومحافظين وحزب وطنى، جميعهم كانوا فى حالة دفاع عن النفس فاستخدموا كل ما هو مباح وغير مباح للقضاء على هذه «الهوجة»، وما كانت الإطاحة برأس النظام وبعض رجاله إلا من أجل الحفاظ على النظام ذاته، وبعد رحيل رأس النظام استمر رئيس ديوان رئيس الجمهورية فى عمله يباشره من القصور الرئاسية، واستمر رئيس مباحث أمن الدولة فى منصبه، وكذلك الكثير من الوزراء وجميع المحافظين، فتمكن هؤلاء الرجال من حرق وفرم كل ما يدين النظام السابق من مستندات ووثائق، بل افتعال أزمات تمس حياة المواطنين مباشرة، منها الانفلات الأمنى المتعمد عقاباً للناس على ما قاموا به من «أحداث شغب»، فلم يكن هناك أى قناعة بأن ثورة قد قامت.
ولم يستجب القائمون على إدارة شؤون البلاد - المجلس العسكرى - لتحقيق المطالب البديهية للثورة إلا تحت ضغط جماهيرى متوال من جمعة إلى جمعة، وكانت المطالب تتحقق قطرة بقطرة، ثم جاء تشكيل لجنة تعديل الدستور بصبغة إسلامية دون مبررات واضحة فى ذلك الوقت، ثم جاء استفتاء مارس على هذه التعديلات، والذى كان الفخ الأكبر لتقسيم الشعب، ونجح منظرو هذا الفخ فى تقسيم الشعب إلى إسلاميين ومدنيين، فكان هذا أول مظاهر فشل المجلس العسكرى فى إدارة شؤون البلاد، والذى استمر على مدار عام ونصف مضى.
ثم جاءت الانتخابات البرلمانية التى جرت على أسس ومنافسة طائفية وليست سياسية فى ظل قانون انتخابات فاسد يعتوره البطلان، وهو ما ستظهره المحكمة الدستورية. وأسفرت هذه الانتخابات عن برلمان مقيد الصلاحيات ذى صبغة دينية فى أغلبيته، ولا يملك أدوات فاعلة للرقابة، بعدم النص على صلاحيته فى سحب الثقة من الحكومة، وأيضاً لا يملك سلطة التشريع منفرداً بعد أن أوقف الحق فى إصدار القوانين على شرط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على القانون والتصديق عليه لإصداره، دون وجود أى جزاء على هذا الرفض كما كان فى دستور 71 الذى كان ينص على حق المجلس فى إصدار القانون رغم رفض رئيس الجمهورية، وذلك بأغلبية الثلثين ليصدر القانون بقوة الدستور.
وغنى عن البيان أن هذه الأغلبية هى التى ارتضت خوض الانتخابات البرلمانية وفقاً لهذه الأسس، فلا تلومن إلا نفسها.
والخطأ الثانى لهذه الأغلبية كان فى تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، إذ توهمت أنها قد ملكت زمام الأمور، وأن الحياة السياسية قد دانت لها وهُيئ لها أن الفرصة التاريخية قد حانت لاختطاف دستور دائم لمصر يمكّنها - وهى أغلبية مؤقتة - من إحكام السيطرة وتغيير الهوية المصرية بما يوافق قناعاتها، فشكلت الجمعية من أغلبية الإسلام السياسى رغم الرفض الشعبى وتوالى الانسحابات من جميع الأحزاب ومن شخصيات مهمة ومؤثرة وانضمام الأزهر والكنيسة للمنسحبين وصمم الباقون من أعضاء الجمعية على المضى فى الطريق إلى نهايته رغم كل هذه الانسحابات، وأتت رصاصة الرحمة لهذه الجمعية من القضاء المصرى لترحم الجميع وتحفظ ماء وجه الأغلبية.
ثم كان قرار الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة الخاطئ بترشيح المهندس خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية، مناقضاً العديد من الوعود التى قطعها الإخوان على أنفسهم بعدم ترشيح أحدهم لهذا المنصب بل عدم تأييد أى مرشح إسلامى، فكان القرار صادماً للشعب لشعوره برغبة الإخوان الجامحة فى السيطرة على كل مؤسسات الدولة الدستورية من برلمان بغرفتيه، ولجنة إعداد الدستور، ورئيس جمهورية، وبالطبع تشكيل حكومة فيما بعد، ليثور السؤال: لماذا كل هذا؟
وهوجم القرار من الجميع بما فى ذلك بعض قيادات الإخوان، ولما أثير الكلام عن عقبات قانونية قد تعوق ترشيح المهندس خيرت الشاطر رأت الجماعة وحزب الحرية والعدالة - فى سابقة لم تحدث فى العالم على مر التاريخ - أن تدفع بمرشح احتياطى على ذات المنصب هو الدكتور محمد مرسى، رئيس حزب الحرية والعدالة، فى تصميم غريب للاستحواذ على كل السلطات، وهذه كانت بعض أخطاء الأغلبية البرلمانية وجماعة الإخوان المسلمين.
أما الليبراليون أو أنصار مدنية الدولة فقد اكتفوا جميعاً بالتنديد ورفض ما تقوم به الأغلبية والاعتراض على الكثير من قرارات المجلس العسكرى وتصرفات الإخوان المسلمين دون أن يتفقوا على هدف واحد أو آلية موحدة، وتصارعوا فيما بينهم على لا شىء، ولم يقدموا بديلاً مقبولاً أو منطقاً قوياً للشعب حتى يلتف حولهم بعد أن فقد الثقة فى الجميع.
وهكذا نرى أن الفشل قد لحق بالمجلس العسكرى وبالإخوان المسلمين وبالليبراليين وبالأحزاب المدنية.
وحين شعر الشعب بأن الثورة تحتضر وتضيع أهدافها فإن هذه الفصائل التى كانت متوحدة أثناء الحلم الجميل فى أيام الثورة الأولى - وبعد أن أسكرت خمر السلطة بعضها وفرقتها عن رفاق الكفاح - عاد الجميع مرة أخرى للميدان.. فهل استوعبنا الدرس ؟.
لن أصدق أن هناك نوايا حقيقية للم الشمل والتوحد والائتلاف لتحقيق الحلم ولتحقيق النهضة لمصر إلا بعد أن تثبت الأغلبية - وهذه مسؤوليتها - مصداقيتها بسحب مرشحها للرئاسة الدكتور محمد مرسى، فتخوفات الأقلية هى عار مؤكد على الأغلبية، وعليها أن تبدده.