لن يسامحنا أبناؤنا
تخيلت مقالا مكتوبا فى جريدة «الشروق» فى عام 2022 يتحدث عن المرحلة التى نمر بها الآن. وذهبت للظن أننى سأجد كاتب المقال يقول ما يلى: .... وما تعيشه مصر الآن من مشكلات وتحديات فى عام 2022 يرجع لأن جيلا من السياسيين لم يستطع أن يعلى الصالح العام والحرص على المشتركات الجامعة.. قد تولوا حكم مصر فى مرحلة ما بعد ثورة 2011. كان أمام المصريين فى عام 2011 فرصة ذهبية لأن يضعوا مصر على الطريق الصحيح، ولكن حكمهم قصر النظر وسوء الفهم والمغالاة فى تسجيل المواقف، وأمسى كل حزب بما لديهم فرحون.لقد انقسم هؤلاء إلى أربعة فرق، يجمعها الخلاف، ويفرقها التوافق. ولكل فريق جمهوره الذى يتعامل معه بمنطق الألتراس المغالى فى الحماس والذى يساوى بين «مصر» و«أنا»، بين الحق والخير والجمال من ناحية وما يعتقده صاحب الرأى.
أولا فريق المجلس العسكرى وجزء من الجمهور يؤيده إما ثقة فيه أو خوفا عليه، وفريق الإسلاميين بشقيهم السلفى والإخوانى وقطعا معهم فريق من المشاهدين يؤيدونهم ويدعمونهم اعتقادا منهم أنهم أصحاب المنهج القويم «بما لا يخالف شرع الله» بالمعنى الحقيقى للعبارة وليس على سبيل التهكم كما يفعل البعض. وثالثا فريق الليبراليين واليساريين ممن يخافون من أن يتحول التيار الإسلامى إلى استبداد جديد، ومعهم من يؤيدونهم سواء ممن أرادوها ثورة ليبرالية أو ممن أرادوها «لا ثورة» على الإطلاق. أما الفريق الرابع فهو الذى سيحتاج منك قدرة أعلى من التركيز، عزيزى المشاهد، عفوا أقصد القارئ، وهو فريق القوى الثورية والتى ترفع شعار «ثوار بلا تيار» ولأنهم بلا تيار فالزى الذى يرتدونه كما هو جمهورهم شديد الاختلاط والصعوبة فى التعرف عليه فهم من أثبتوا أنهم الأقدر على حشد الشارع «ضد» أمر ما أو شخص ما مع قدرة أقل على الحشد «فى صالح» أمر ما أو شخص ما.
وقد عاش هؤلاء بمنطق التنافس من أجل إحراز أهداف فى مرمى الخصم. ولكنهم التبس عليهم صالح الجماعة والحزب والرؤية المحدودة لمؤسسة حاكمة من ناحية بصالح الوطن. وهو ما جعلهم وكأنهم يتنافسون على كرات أربع فى ملعب بلا خطوط أو حكم، واختلط فيه الحابل بالنابل.
أما عن الكرات الأربع فهى: كرة الدستور ومعها الجمعية التأسيسية التى يبدو أنها أصبحت عنوانا للعبة شد الحبل بين الفريقين الإسلامى والليبرالى وبينهما المجلس العسكرى وكل فريق يسعى لأن يدفع بالكرة فى الاتجاه الذى يغلب على ظنه أنه مرمى الخصم، ولكن المشكلة أن الكرة محصورة فى وسط الملعب دون أن يسجل أى من الفريقين فى مرمى خصمه. والكرة الثانية هى كرة الحكومة والتى يبدو أن أداءها الضعيف لا يحميه إلا أن فريق المجلس العسكرى يستحوذ على الكرة ولا يسمح لفريق الإسلاميين بالاقتراب منها ومن يقترب منها يناله من فريق المجلس العسكرى عرقلة شديدة لا يترتب عليها أية عقوبة لأنه لا يوجد قانون لعبة ولا حكم يفصل بين الفريقين. ويبقى الوضع على ما هو عليه كذلك. والكرة الثالثة هى كرة انتخابات الرئاسة والتى قد يكون قرار اللجنة الرئاسية بقبول تظلم الفريق أحمد شفيق قد نجاها من مطب مؤقت، ولكن تظل صلاحيات الرئيس القادم معضلة المعضلات فى ظل غياب دستور يحدد له ما الذى يستطيعه وما الذى عليه أن يلتزم به.
أما الكرة الرابعة فهى كرة المجلس التشريعى الذى تلاحقه قضية عدم الدستورية بسبب صيغة «الثلثين للقائمة، والثلث للفردى» مع حق الحزبيين أن يدخلوا انتخابات الفردى مع تحويل انتمائهم بعد دخول البرلمان. وما قد ينقذ المجلس التشريعى، وهذا غير مؤكد، هو أن ينص الدستور القادم على استمرار عمل مجلسى الشعب والشورى لحين انتهاء دورتهما المقررتين فى الإعلان الدستورى، وهذا غير مؤكد لأن جمعية الدستور الجديدة تائهة كالكرة التى يحركها لاعبون بلا خطة أو مهارة.
ومن غريب أن السابقين علينا ممن عاشوا فى مرحلة ما بعد الثورة مباشرة، كرروا جميع أخطاء النخبة السياسية فى مرحلة ما بعد ثورة 1919 حيث انقسمت وتحول انقسامها إلى تفتت عدائى أضاع الثورة وجعلها بحاجة لثورة أخرى.
●●●
كيف فات على ساسة 2011 و2012 إمكانية التراضى على دستور مؤقت انتقالى يكتبه 10 أو 15 من أعضاء الجمعية التأسيسية بعد أن تتشكل خلال أسبوعين عبر تعديل المواد غير المرغوب فيها من دستور عام 1971. ويكون بقية أعضاء الجمعية هم الجمعية العمومية التى تناقش المواد المقترح تعديلها وتقرها فى ضوء مرجعية «وثيقة الأزهر». ويصبح هذا الدستور الجديد هو دستور مصر غير الدائم ويستفتى عليه الشعب فى نفس يوم انتخابات الإعادة. وبعد فترة من الزمن (ولتكن 10 سنوات أو أقل) يتم تشكيل جمعية تأسيسية جديدة سواء بالانتخاب المباشر أو بنسبة منتخبة من مجلس الشعب ونسبة ضئيلة معينة من رئيس الدولة على أن تكون ممثلة لجميع فئات وطوائف وشرائح المجتمع، ويكون هذا الكلام منصوصا عليه صراحة فى الدستور المؤقت. ووظيفة هذه الجمعية الجديدة أن تعد دستورا دائما لمصر.
بهذا، كان يمكن لهم أن يضمنوا ألا يعد دستور دائم تحت حكم العسكر، بما يمرر هذه الفترة المضطربة من تاريخ مصر، وبما كان يضمن للرئيس الجديد دستورا يحدد صلاحياته، ثم تكون هناك فترة من الهدوء والاستقرار، لأن دستورا دائما فى ظل هذا الاستقطاب قد يعنى مزيدا من الاستقطاب وربما نهاية الدولة المصرية.
إن الخلل فى مسار التحول الديمقراطى الذى عاشه مصريو عام 2011 و2012 لا يبدو مرتبطا بالآلية ولكنه جزء من نمط معيب فى التفكير وإعلاء الذات والنزعة نحو إقصاء الآخر بنفس منطق ما بعد ثورة 1919، يبدو أنه «عيب مصنع.» وهو ما جعل التسلط آنذاك منطقيا للغاية. أسوأ ما تفعله النخبة السياسية الحالية أنها تعطى كل المبررات الممكنة لمن يعتبرون أن الثورة غلطة وأن الديمقراطية رفاهية نحن غير قادرين عليها. القضية أننا أمام نخبة تعكس الكثير مما يحدث فى الشارع مع أنها من المفروض أن ترشده. نخبة لم تنجح فى أن تتعلم منطق الحلول الوسط وتقديم التنازلات المتبادلة من أجل الصالح العام. القضية ليست فى أننا كان ينبغى أن نحفر نفقا بدلا من أن نبنى كوبرى، أو أنه كان ينبغى أن نشترى سيارة كبيرة مكان السيارة الصغيرة، أو أنه كان ينبغى أن نأخذ الطريق الزراعى بدلا من الطريق الصحراوى. القضية أننا لا نجيد القيادة: سواء قيادة السيارة أو قيادة السياسة.
●●●
سنأخذ وقتا حتى نتعلم أكثر، ولكن أتمنى ألا تغرق السفينة، لا قدر الله، حتى يتعلم من فى قلبه مرض وفى عقله خلل، ومن يجمع بينهما.
رحمة الله على شهدائنا، الذين لو كانوا يعرفون أننا سننتهى لما انتهينا إليه، لترددوا ولو قليلا فى التضحية حتى تؤول الأمور إلى ما آلت إليه.