بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد خلق الله الخلق جميعا لغاية واحدة؛ لعبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات(56)]، وقد بين لهم -سبحانه وتعالى- كيفية العبادة، ووضَّح لهم صفتها، وفصَّل لهم أنواعها، فثمة عبادات ظاهرة \"بالجوارح\"؛ كالصلاة والصيام، وما إلى ذلك، وعبادات باطنة \"قلبية\" كالخوف منه، والتوكل عليه، والرضا به، وما أشبه ذلك، ومن هذه العبادات القلبية التي تعبد الله بها عباده: الثقة به، وصدق الاعتماد عليه، وحسن التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه..
الثقة بالله صفة من صفات الأنبياء؛ فهذا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال :\"حسبنا الله ونعم الوكيل\" فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء(69)].
ولما فر نبينا -عليه الصلاة والسلام- من الكفار فدخل الغار؛ فحفظ الله نبيه من كيد الكفار، وحرسه بعينه التي لا تنام؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق حدثه، قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)[رواه البخاري(3653) ومسلم(2381) وهذا لفظ مسلم].
إنها ثقة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- العظيمة بالله، ولذلك خاف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على أن يصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأذى؛ فرد عليه بلسان الواثق بوعد الله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}[التوبة(40)]، وفعلا كان الله مع نبيه -عليه الصلاة والسلام- فحفظه وأيده ونصره، وجعل العاقبة له ولأتباعه من المؤمنين والمؤمنات.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: \"حسبنا الله ونعم الوكيل\" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران(173)][رواه البخاري(4563)].
ففي هذه الأوقات العصيبة والحرجة كانا حبيبا الرحمن إبراهيم ومحمد -عليهما السلام- في ثقة عظيمة بالله.
والثقة أيضا صفة من صفات الأولياء الصادقين؛ قال يحيى بن معاذ: \"ثلاث خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء\"[شعب الإيمان(2/354) للبيهقي].
وهي كذلك صفة من صفات العباد الزهاد، فقد جاء رجل إلى حاتم الأصم فقال: \"يا أبا عبد الرحمن أي شيء رأس الزهد ووسط الزهد وآخر الزهد؟ فقال: \"رأس الزهد الثقة بالله ووسطه الصبر وآخره الإخلاص\"، وقال حاتم: \"وأنا أدعو الناس إلى ثلاثة أشياء: إلى المعرفة وإلى الثقة وإلى التوكل؛ فأما معرفة القضاء فأن تعلم أن القضاء عدل منه، فإذا علمت أن ذلك عدل منه فإنه لا ينبغي لك أن تشكو إلى الناس أو تهتم أو تسخط، ولكنه ينبغي لك أن ترضى وتصبر. وأما الثقة فالإياس من المخلوقين, وعلامة الإياس أن ترفع القضاء من المخلوقين، فإذا رفعت القضاء منهم استرحت منهم واستراحوا منك، وإذا لم ترفع القضاء منهم فإنه لابد لك أن تتزين لهم وتتصنع لهم، فإذا فعلت ذلك فقد وقعت في أمر عظيم، وقد وقعوا في أمر عظيم وتصنع, فإذا وضعت عليهم الموت فقد رحمتهم وأيست منهم، وأما التوكل فطمأنينة القلب بموعود الله تعالى فإذا كنت مطمئنا بالموعود استغنيت غنى لا تفتقر أبدا\"[حلية الأولياء(8/75) لابن الجوزي].
والثقة بالله تجعل العبد راضيا بالله، قال حاتم الأصم: \"من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة، والأشياء كلها تتم بالمعرفة\"[حلية الأولياء(8/75)]، وتجعله يائسا مما في أيدي الناس؛ قيل لأبي حازم: \"يا أبا حازم ما مالك؟ قال: \"ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس\"[حلية الأولياء(3/231)].
ومن وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه؛ قال أبو العالية: \"إن الله -تعالى- قضى على نفسه أن من آمن به هداه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن(11)]، ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق(3)]، ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}[البقرة(245)]، ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا}[آل عمران(103)]، والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[حلية الأولياء(2/221- 222)][البقرة(186)]، فكون واثقا بالله، متوكلا عليه، معتصما به.
بل من تحلى بهذه الصفة فقد فاز بالجنة؛ قال شقيق البلخي -رحمه الله-: \"من عمل بثلاث خصال أعطاه الله الجنة: أولها: معرفة الله -عز وجل- بقلبه ولسانه وسمعه وجميع جوارحه، والثاني: أن يكون بما في يد الله أوثق مما في يديه، والثالث: يرضى بما قسم الله له، وهو مستيقن أن الله تعالى مطلع عليه, ولا يحرك شيئا من جوارحه إلا بإقامة الحجة عند الله، فذلك حق المعرفة\".
ثم بين الثقة بالله وشرحها وفسرها، فقال: \"وتفسير الثقة بالله أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحه شيئا دون الله، يعني في طاعته واجتناب معصيته\"[حلية الأولياء(8/61)].
الثقة بالله نحتاجها جميعا رجالا ونساء؛ فهذه أم موسى - عليه السلام- كما قص الله علينا قصتها في سورة القصص؛ هذه المرأة المباركة عاشت في زمن جبار عنيد، وطاغوت فريد؛ لن نجد له في التاريخ مثيلا؛ هذا الطاغوت ادعى الربوبية: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات(24)]، ونفي الأولوهية عما سواه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص(38)].
كن وثقا بثواب الله، وأنه تبارك وتعالى سيثيبك ثوابا جزيلا على أعمالك الصالحة؛ التي فعلتها ابتغاء وجه الله، مقتفيا فيها لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خرج ثلاثة نفر يمشون فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة، قال فقال بعضهم لبعض ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان، قال فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون-أي ترتفع أصواتهم وتختلط- عند رجلي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال ففرج عنهم وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة، قال ففرج عنهم الثلثين، وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذاك أن يأخذ فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها ثم جاء، فقال يا عبد الله أعطني حقي فقلت انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت ما أستهزئ بك ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فكشف عنهم)[رواه البخاري(2215) ومسلم(2743) وهذا لفظ البخاري]، ففي هذه القصة العظيمة يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه هؤلاء الثلاثة فعلوا هذه الأعمال الجليلة ابتغاء وجه الله، وتوسلوا إلى الله بها؛ ففرج الله عنهم، وكشف عنهم محنتهم.
وفي الحديث الآخر عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وفيه... قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ولن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك)[رواه البخاري(1296)].
كن واثقا بأن الله ناصر دينه، وعباده المؤمنين؛ فقد وعد بذلك، فقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر(51)]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ}[الصافات(171)(172)، فإذا كنت مؤمنا بالله، واثقا بوعده؛ فلا تهن ولا تحزن، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران (139)]، قال الألوسي -رحمه الله- : \"فلا تهنوا ولا تحزنوا -أيها المؤمنون- فإن الإيمان يوجب قوة القلب، ومزيد الثقة بالله - تعالى -، وعدم المبالاة بأعدائه\"[محاسن التأويل(2/416)].
فكن واثقا بالله، واثقا بحفظه لك إذا كنت حافظا لحدوده، واثقا بأنه كافيك ورازقك، ومثيبك على أعمالك الصالحة، وأنه ناصر دينه، وأوليائه، وفقنا الله وإياك إلى كل خير، وصرف عنا وعنك كل سوء ومكروه، والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على خير البريات، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.