طه حسين تاريخ التسجيل : 27/05/2009
| موضوع: تسييل الصلب وتفتيت الجامد فى المنطقة العربية السبت أغسطس 11, 2012 1:22 pm | |
| تسييل الصلب وتفتيت الجامد فى المنطقة العربية معتز بالله عبد الفتاح السبت 11-08-2012 10:10
هذه الفترة من تاريخ منطقتنا ستكون لها تداعيات طويلة المدى ليس فقط على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، أو علاقة المجتمع بالدولة، وإنما كذلك علاقة دول المنطقة بعضها ببعض وبالعالم. إن الأحداث الكبرى على مستوى العالم وجدت دائما تداعياتها على مستوى الشرق الأوسط أكثر من أى منطقة فى العالم. وإذا أخذنا الحرب العالمية الأولى كنقطة بداية فإن التاريخ يذكر أنها الفترة التى تم فيها تشكيل حدود المنطقة السياسية وتركيبتها السكانية التى ظلت معنا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
اتفاقات سايكس - بيكو ووعد بلفور وثورة العرب على الأتراك ثم مؤتمر سان ريمون عام 1920 كلها أعادت تشكيل المنطقة على نحو جعل المنطقة العربية ممزقة بين بريطانيا وفرنسا وتنقسم إلى حدود لم تكن لتعبر عن طموحات ساكنى المنطقة قدر ما كانت تعبر عن مصالح المراكز الغربية فى أوروبا.
حتى حين تخلّص العالم من النظام متعدد القطبية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى النظام ثنائى القطبية أثناء الحرب الباردة كانت المنطقة ساحة دائمة للصراع بين القطبين السوفيتى والأمريكى. وكانت المواجهات الكبرى تؤكد أن المنطقة لن تتشكل بقرارات أهلها وإنما بقرارات خارجة عنها. وحين دخلنا عصر الاستقلال فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تنجح قوى الاستقلال فى أن تغير فى الحدود الموروثة عن الاستعمار بقدر ما رفعت شعارات القومية ومارست القطرية فى أوضح صورها، وجعلت شعارات الأولى ثمناً لضمان استمرار الثانية. ومن هنا تحولت السيولة التى كانت عليها المنطقة فى أثناء الحربين العالميتين إلى حالة صلبة ولكن مشوهة لمجتمعات لا تنطبق عليها دولها تمام الانطباق، فنجد الكرد ممزقين بين خمسة دول متجاورة، وكذا الأمر بالنسبة للبربر والدروز والقبائل المتجاورة جغرافيا والمنقسمة سياسيا.
ومع زمن الثورات العربية دخلت المنطقة فى حالة «تسييل للصلب» على نحو يهدد بقاء الدول المورثة عن الاستعمار بنفس صيغها القديمة. العراق بعد الاحتلال، وفلسطين الممزقة بين حكومتى الضفة والقطاع، والسودان الذى فقد ربعه الجنوبى، وليبيا، واليمن، وسوريا كلها حالات مرشحة لفقدان القدرة على الاستمرار بتركيبتها السياسية والحدودية المستقرة منذ الاستقلال بسبب ضغوط بعضها داخلى فى أعقاب الثورات والانتفاضات العربية، وبعضها خارجى بسبب تدخلات قوى إقليمية (إيران وتركيا) أو دولية (الولايات المتحدة).
الثورات، بحكم التعريف، تسير فى واحد من ثلاثة مسارات: إما استبدال أشخاص بأشخاص (مثل حالة اليمن)، أو نظام بنظام (مثل حالة مصر)، أو بنية الدولة ببنية دولة جديدة (مثل حالة سوريا لو انقسمت البلاد).
ولكن أسوأ ما فى بنية الدولة العربية أن حتى تغيير الأشخاص أو إحلال النظام بنظام تكون له انعكاسات مباشرة على بينة الدولة. هذه التركيبة من المجتمعات العربية، باستثناءات قليلة مثل مصر وتونس، تجعل حرية المواطن وحقوقه فى تضاد مع استقلال الوطن ووحدته.
العراق لن يكون العراق القوى والموحد فى مواجهة أعدائه فى المستقبل المنظور، والجيوش العربية التى تحولت إلى ميليشيات متقاتلة أو التى أصابتها جرثومة التمرد ستحتاج إلى إعادة تأهيل على مدى زمنى طويل، وفقدان المنطقة لمناعتها الضعيفة أصلا ضد تدخلات القوى الإقليمية سيجعل المنطقة ساحة لصراعات إقليمية ودولية ستتحول فيها المنطقة من «مفعول به» إلى «مفعول مطلق».
ومما يزيد الأمر تعقيداً أن نخب ما بعد الربيع العربى لم تصل إلى درجة التفاهم التى كانت حاضرة نسبيا فى مرحلة ما قبل الربيع العربى. قبل الربيع العربى كانت النخب متفقة على عدة قيم وعلى رأسها قمع الحركات الانفصالية والتعسف فى استخدام السلطة خشية التعسف فى استخدام الحرية ورفض الديمقراطية، وعداء القوى المحافظة دينيا. ومع الربيع العربى، سال الصلب وتفتت الجامد بكل ما فيه من عيوب، ولكن هذا ليس ضماناً لأن يكون القادم بالضرورة أفضل إلا إذا نجحنا فى خلق ثلاث حقائق على الأرض:
أولاً، أن تكون عملية بناء دولة ما بعد الربيع العربى قائمة فى الأصل على مصالحات وطنية جادة تأخذ فى الاعتبار أن فساد ما قبل الثورات كان درجات وأنواعا، وليس من أراد الإصلاح فأخطأه كمن أراد الإفساد فأصابه.
ثانياً، أن تُجدد دول الربيع العربى تعهدها بألا تتدخل فى الشئون الداخلية للدول التى لم يصبها هذا الربيع؛ فالدول التى شهدت ثورات وانتفاضات لم تقدم بالضرورة نماذج جيدة يمكن أن تحتذيها الدول والشعوب الأخرى. ولكن فى المقابل، على الدول غير الديمقراطية فى منطقتنا العربية أن تشرع فى الاستعداد لمرحلة ستطالب فيها الشعوب بحقوقها وحرياتها. ويكون هذا الاستعداد بقرارات إصلاحية متدرجة حتى لا يصيب الجمود تسونامى الانتفاضات القادمة.
ثالثاً، على دول الفائض الاقتصادى العربى أن تساعد الدول التى تعانى اقتصاديا حتى لا تتحول المعاناة الشعبية إلى البيئة الحاضنة للتطرف، والذى هو عادة المقدمة المنطقية للعنف الاجتماعى والسياسى، والذى ينتشر بسرعة فى المجتمعات المتشابهة ثقافيا. كتاب روبرت بيب (Dying to Win) يقدم قراءة مهمة فى الارتباط السببى بين المعاناة الاقتصادية وضعف الدولة من ناحية، والتطرف والعنف من ناحية أخرى. وهو ما لا يريده عاقل قطعا.
للثورات، كما لكل فعل جماعى بشرى، نتائج مقصودة وأخرى غير مقصودة. وعلينا أن نجتهد فى الحد من الآثار غير المقصودة للثورات. وأخطر ما يواجه منطقتنا من تحديات هو أن العروش كانت تستند إلى الجيوش فى استدامة الاستبداد. والثورة ضد العروش اقتضت الثورة ضد الجيوش فى الكثير من دول منطقتنا. والجيش ليس مجرد جنود يحملون أسلحة، وإنما جوهره هو «الجندية» التى تخلق ضمن ما تخلق الولاء للدولة وليس للقبيلة أو العرق أو الدين. وتحول بعض جيوش المنطقة إلى ميليشيات متقاتلة وضعف تماسكها الداخلى وتراجع صورتها الذهنية كمؤسسة وطنية يعنى ضمناً أن صلابة المؤسسة، ومعها صلابة الدولة التى تحويها وتحميها، أصبحت موضع شك.
أزعم أن منطقتنا تعيش اليوم ما عاشته دول غرب ووسط أوروبا بعد الثورة الفرنسية وما نتج عنها من خريطة جديدة. كان ولم يزل أملى أن تكون لنا قدرة أكبر على قراءة التاريخ والتعلم منه، ولكن تبدو النخبة المصرية (سواء المثقفة أو السياسية) لى وكأنها تعانى من مرض خطير وهو «النرجسية المعرفية» بمعنى رفض الاستفادة من خبرات الآخرين أو الاستفادة من النظرة النقدية لتاريخنا.
وما أذهلنى حتى الآن أن تجربة التحول الديمقراطى فى ليبيا ناجحة رغما عن الصعوبات المجتمعية التى تواجهها. ويبدو أن النخبة السياسية الليبية، بحكم أنها الأكثر تواضعا ورغبة فى التجدد المعرفى، والأكثر حرصا على ألا تكرر أخطاء جيرانها من المصريين والتونسيين؛ تفعل ما فعلته النخبة الهندية فى أعقاب الاستقلال. برلمان ليبيا يحتوى على 80 عضوا ممثلين عن الأحزاب، و120 ممثلا عن المستقلين، ولم تسع الأحزاب الليبية لإجبار المجتمع على قبولها عنوة على حساب المستقلين مثلما حاولت تلك الأحزاب فى مصر ففشلت وأفشلت المجلس المنتخب. كما توجد نزعة بين النخبة الليبية نحو الالتزام بخارطة الطريق التى تتضمن انتخاب مجلس وطنى (برلمان) وتشكيل حكومة مؤقتة وكتابة الدستور، ونلاحظ أنهم انتخبوا من سيكتب الدستور، مع الحد الأدنى من الاتهامات المتبادلة بأنها مؤامرة من أحد ضد أحد. واحترم الإسلاميون فوز «الوطنيين» بعد فترة من التلكؤ والتشكك. ويكفينى مشهد البرلمان الليبى فى أول اجتماعاته دون مزايدات أحد على أحد كى يسرق الكاميرا منه، ودون أن يوزع أحد على أحد صكوك الوطنية أو التدين.
حالة السيولة والتفتت التى نعيشها تتطلب منا جهداً استثنائياً حتى لا تكون سيادة الدولة ضحية الثورة ضد التسلط، ولا وحدة الوطن ضحية الثورة من أجل حرية المواطن.
تسهيلاً على زوارنا الكرام يمكنك الرد من خلال تعليقات الفيسبوك
|
|