ثمرة الليمون التي جاءت بالدكتور محمد مرسي رئيسًا لمصر، هي نفسها التي ربما تأتي بدستور شائن مشين، وإذا كان انتخاب مرسي مُبَررًا بأن منافسه كان الفريق أحمد شفيق، فلا حُجة الآن لمن يصوِّت بـ«نعم» لدستور نصف الليل، ولو عَصَر على نفسه ليمونة الاستقرار حتى ذابت قشرتها.
مشهد (1)
نحن الآن في عام 2028. كثير من الأمور اختلفت. تغيرت مصر وتغيرت ناسها، لكن الفقر لم يتغير بعد. لا يقنعنا كثيرًا البيان الذي يلقيه الدكتور محمد البلتاجي، رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب، في مطلع كل دورة برلمانية ويتحدث فيه عن قلة الموارد وصعوبة التحديات الاقتصادية وزيادة عدد السكان بشكل لا تتحمله الموازنة العامة.
لم تتغير ملامح الرجل كثيرًا رغم قضائه ثلاث دورات برلمانية متتالية في موقعه، فقط بعض الشعرات البيضاء، فضلا عن أن عقدة الحاجبين تزداد غِلظة مع مرور الوقت، لكنه مضطر لبسطها قليلا اليوم لأنه أمام حدث استثنائي، فالرئيس محمد مرسي قادم إلى مجلس النواب لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، ولا يصح أن يرى حاجبي البلتاجي كما تراهما المعارضة.
نجح الإخوان في تحقيق انتصار كاسح في هذا البرلمان، ولم تحصل المعارضة سوى على بضع وعشرين مقعدًا، أي نعم هناك شبهات كبيرة حول تزوير الانتخابات، لكن لا أحد يستطيع أن يُثبت شيئًا، والمفوضية العليا التي تشكلت بموجب دستور 2012 لا تستطيع أن تبسط يدها على ما يحدث في كل لجان الجمهورية، لا سيما بعد إلغاء الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات عام 2022 بموجب هذا الدستور المشبوه، ليحل محل القضاة موظفون غالبيتهم ينتمون لحزب الحرية والعدالة.
تستغرب أن الدكتور محمد مرسي ما زال رئيسًا لمصر رغم مرور 18 عامًا على انتخابه لأول مرة ورغم أن الدستور ينص على أن مدة حكمه لا تتجاوز 8 سنوات؟ يبدو أنك كنت في سفر طويل، فالرئيس الملهم أجرى تعديلا طفيفا على المادة 133 في عام 2017، حذف فيها فقرة "ولا يجوز انتخابه إلا لمرة واحدة"، بمساعدة مجلس النواب المطعون في شرعيته، وعندما نزلت المعارضة إلى الشوارع منددة بالقرار، نزلت أعداد مساوية تقريبًا تؤيده وتدعو الرئيس مرسي للبقاء مدى الحياة، مدعية أن الجنين في بطن أمه يبايعه ويرجوه أن يبقى لأطول فترة ممكنة، سقط بعض القتلى في اشتباكات بين الطرفين ولكن في النهاية بقي الوضع على ما هو عليه.
ها هو الرئيس يدخل إلى قاعة مجلس النواب وسط عاصفة من التصفيق والتكبير، بدأ يلقي كلمته إلي الأمة، واستنكر الأحاديث المغرضة والمعارضة المأجورة التي تشكك في نزاهة هذا المجلس، وعندما وقف أحد النواب يطالبه بتطبيق القانون على هؤلاء، قال مرسي وقد غلبته عاطفة الابوه، "خليهم يتسلوا"!.
مشهد (2)
فوجيء مسعد وزملاؤه العمال بحريق ضخم في مخزن الشركة، هرعوا جميعًا ليجدوا النيران تلتهم المنتجات التي صنعوها بأيديهم قطعة قطعة، حاولوا إطفاء النيران بقدر استطاعتهم حتى أن بعضهم كاد يلقي بنفسه في النار وبعضهم الآخر أصيب بالفعل ومن بينهم مسعد الذي شوّهت النيران جزءا كبيرا من كتفه الأيمن، وعندما جاءت عربات المطافئ وتمكنت من السيطرة على الحريق كان قد أتى على عدد كبير من الماكينات.
صرف صاحب الشركة مبلغًا محترما من شركة التأمين لكنه رفض شراء ماكينات جديدة، وفضّل المضاربة بمبلغ التأمين في البورصة بدلا من المخاطرة بأمواله في الصناعة. مر شهران والعمال يذهبون إلى المصنع كل صباح ولا يجدون ماكينات كافية يعملون عليها، وذهب مسعد في أول الشهر لاستلام راتبه ليجد المفاجأة.
800 جنيه فقط هو الراتب الإجمالي الذي وجده أمام اسمه. اعتقد أن خطأ ما وقع فيه المحاسب، لأن راتبه الطبيعي 4 آلاف جنيه، لكنه اكتشف أن هذا هو وضع زملائه كلهم، سألوا فعرفوا أن صاحب المصنع فعل ذلك ليجبرهم على ترك العمل ليبقى عدد محدود على قدر الماكينات التي نجت من الحريق.
ذهب مسعد مع زملائه إلى أحد المحامين وحكوا له القصة، لكنه مصمص شفتيه وأخرج لهم من مكتبته كتيباَ صغير مكتوب على غلافه "دستور جمهورية مصر العربية"، قلب في أوراقه حتى وصل إلى المادة (14) وقرأ عليهم فقرة "ويجب ربط الأجر بالإنتاج"، وأكد لهم مقدمًا أن صاحب المصنع سيربح القضية حتمًا لأن الإنتاج تأثر بالحريق، ولا أحد يمكنه إجبار صاحب المصنع على شراء ماكينات جديدة أو تطوير الموجودة.
سألوه، ولماذا 800 جنيه تحديدًا، فأجاب، لأنه الحد الأدنى للأجر، حيث أقره برلمان 2013 بـ700 جنيه، قبل أن يرفعه 100 جنيه أخرى عام 2021.
مشهد (3)
في شقة صغيرة بأحد مناطق القاهرة الفقيرة، التف أبناء عم راضي حول مائدة الطعام، تتوسطها "تورتة" صنعتها الأم في المنزل للاحتفال بعيد ميلاد الابن الصغير لأن ميزانية الأسرة لا تتحمل شراء تورتة من محل حلويات خاصة أن سعر الواحدة تجاوز 400 جنيه.
وضع أشقاء الطفل وأبناء الجيران الشمع في منتصف التورتة ثم أطفأوا النور وبدأوا في الغناء "سنة حلوة ياجميل"، و"ياللا حالا بالا حيوا أبو الفصاد". فجأة رن جرس الباب، وعندما فتح عم راضي الباب وجد الأستاذ عبد القادر، جاره الذي يسكن في الشقة المقابلة.
اعتقد راضي أن جاره جاء ليهنئه بعيد ميلاد ابنه، لكن ذلك لم يبدُ على ملامح وجهه المتجهّم.
راضي، اتفضل يا أستاذ عبد القادر خد لك حتة تورتاية بمناسبة عيد ميلاد مصطفى.
عبد القادر، أنا مباكلش حاجات من دي يا سيد راضي.. أنا جاي بس أقول لك ميصحش اللي انت عامله ده.
راضي، خير بس إيه اللي أنا عامله؟
عبد القادر، غناء ورقص بصوت عالي ولا كأننا في ماخور واحنا عندنا بنات.
راضي، يا سيدي دول عيال صغيرة بيفرّحوا الواد شوية بعيد ميلاده.
عبد القادر، عيد الميلاد أصلا حرام!
راضي، والله أنا مقلتش لحضرتك اعمل عيد ميلاد لولادك لكن أنا حر أعمل في بيتي اللي أنا عايزه.
عبد القادر، على فكرة اللي انت بتعمله ده مش قانوني وأنا من حقي أمنعك بالقوة.
راضي، بالقوة؟ إزاي يعني هي فوضى؟
عبد القادر، لأ مش فوضى، بس المادة 10 من الدستور بتقول "تحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية"، واللي انت بتعمله ده يتنافى مع الطابع الأصيل للأسرة المصرية.
راضي، وحضرتك بتقول لي كدة بقى بصفتك إيه؟
عبد القادر (تحسس صدره بثقة ثم قال)، بصفتي المجتمع!
استأذن راضي وأغلق الباب في أدب ثم طلب من أبنائه أن يخفضوا أصواتهم أو يأكلوا التورتة في صمت لتجنب المشاكل، ثم اتجه إلى الثلاجة ففتحها وأخرج زجاجة مياه باردة يبلع بها هذا الموقف المهين، وبينما يرفع الزجاجة على فمه، رأى بعض الليمون في الرف المخصص للبيض، فأنزل الزجاجة وأمسك بالليمون في غيظ وأطاح به في الحائط بأقصى قوته.
مشهد (4)
طابور طويل أمام شباك حديدي في مبنى تابع لوزارة التأمينات والشؤون الاجتماعية. لم تودّع مصر الطوابير بعد في الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين. مازالت طوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز موجودة في مدن وقرى مصر، وأضيفت إليها "طوابير الفقر"، كما تقول عنها وسائل الإعلام، وهي الطوابير التي يحلم أصحابها بالحصول على شهاده تُثبت أنهم من "غير القادرين" الذين اختصهم الدستور في مادته (62) بالحصول على العلاج المجاني.
وقف مراسل لإحدى القنوات الفضائية يستطلع الأمر. قابل مواطن أربعيني يجلس على الرصيف المقابل للطابور ومعه مجموعة من الأوراق يقلب فيها:
المذيع، بقالك قد إيه بتيجي هنا يا حاج؟
المواطن، أديني يا ابني باجي بقالي شهور عشان أخلص الورق بتاع العلاج، وكل مرة يطلبوا ورقة جديدة.
المذيع، وبتتعالج من إيه؟
المواطن، عندي فشل كلوي من المياه الملوثة اللي بنشربها، وشكلي هموت قبل ما يصدقوا إني فقير واستحق العلاج المجاني.
المذيع، وانت ساكن فين يا حاج؟
المواطن، في النهضة!