طه حسين تاريخ التسجيل : 27/05/2009
| موضوع: محمد مرسي: الرئيس الذي كان بإمكانه أن يكونه الثلاثاء فبراير 12, 2013 4:19 pm | |
| محمد مرسي: الرئيس الذي كان بإمكانه أن يكونه
اليوم هو ٢٥ يناير ٢٠١٣. الجماهير الغفيرة تتدفق في جموع إلى التحرير للاحتفال بالذكرى الثانية لثورة البلد في مشهد يماثل ذات الثورة الأولى. كانت الجماهير متنوعة بشكل كبير. كان هناك الرجال والنساء والأقباط والمسلمين، والشباب وكبار السن، وأعضاء الأحزاب بأعلام أحزابهم وغير المسيسيين، والإسلاميين والليبراليين على السواء. سار القضاة في مسيرة مرتدين ”روب القضاء” المميز، مع أساتذة الجامعات والفنانين والأطباء وبالتشارك مع نقابات أخرى والإتحادات المهنية الأخرى في أعداد غفيرة. كان هناك بعض المشاحنات عندما ردد بعض المتظاهرين صيحات شديدة-الايديولوجية مما أستثار البعض ممن حولهم، ولكن المسيرة استمرت متلاحمة في سوادها الأعظم لمعظم الوقت. وعلى الرغم من الشعور المشترك بين الجماهير بأنه ان من الممكن انجاز ما هو أكثر بكثير في العامين السابقين منذ سقوط في ١١ فبراير ٢٠١١، فقد كان هناك جو احتفالي في الأغلب، واقتناعًا صادقًا بأن الدولة تتقدم إلى الأمام، مهما تباطئت خطاها. شعر الكثير من الحاضرين بالانتصار، وكأنهم أبطال.
ولكن لعل المنتصر الأكبر في هذا اليوم هو الرجل الذي ألقى الخطاب الرسمي للشعب في وقت مبكر من المساء؛ محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديموقراطيًا، والذي تزامن هذا مع احتفاله بتوليه منصبه لستة أشهر. قد يكون بإكان البعض أن يدعي أن مرسي كان أكبر مفاجئات الثورة المصرية، فأستاذ الهندسة والقيادي بالأخوان المسلمون الذي لم يكن معروفًا جماهيريًا حتى إبريل ٢٠١٢ احتل اسمه عناوين الأخبار العالمية عندما توجه للانتخابات الرئاسية كمرشح ”إحتياطي” للرجل الأقوى في تنظيم الإخوان المسلمون، خيرت الشاطر، والذي واجهه احتمال استبعاده من السباق الرئاسي بناءً على الجدل المتعلق بسجله القانوني. لم يعر الكثيرون اهتمامًا تجاه مرسي في المرحلة الأولى من الانتخابات حتى ظهر جليًا أن جماعة الأخوان بقدراتها التنظيمية جادة كل الجد في جعله الفائز بكرسي الرئاسة. وبشعبيته شديدة الضئالة في البداية، استطاع مرسي أن يفاجئ الجميع بأن يحتل المركز الأول في المرحلة الأولى من الانتخابات، ولكن الصدمة الأكبر كانت عندما وجد نفسه في المرحلة الثانية في مواجهة أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد حسني مبارك، فوجد البلد نفسه فجاءة أمام خيار شديد التعقيد، لم يتخيل أبدًا أن يواجهه.
عندها بدء مرسي في الظهور في ثوب رجل الدولة البرجماتي والحكيم الذي بقي متحليًا به من ساعتها، إذا علم مرسي أنه لن يستطيع الفوز بالسباق دون اجتذاب المظلة المتعددة ايدولوجيا التي شكلت الثورة ذاتها، وعلم أن عليه أن يصنع حلفًا طويل الأمد وائتلاف موسعًا يمتد أثره حتى في الحوكمة. كما علم أنه إن كان بالفعل يريد إصلاح مؤسسات الدولة -- تلك التي في أشد العوز إلى الإصلاح، بما في ذلك وزارة الداخلية ذات الإشكاليات العميقة -- فيجب أن يكون هناك ائتلافًا سياسيًا ضخمًا خلفه يشد من عضده من أجل بذل جهد مشترك في هذا المضمار. لذا فقد سارع بالاجتماع من الجماعات الوطنية ووقع على الوثيقة التي عرفت بـ ”إتفاقية فيرمونت” ، والتي أعلنت عن مجموعة من التعهدات التي سيلتزم بها مرسي إذا أصبح رئيسًا، في مقابل إقرار هذه القوى مساندة المرشح الإسلامي في الانتخابات. وقد اشتملت التعهدات على حكومة إنقاذ وطنى تضم جميع التيارات الوطنية، والسعى لتحقيق التوازن فى تشكيل الجمعية التأسيسية، وغيرها من النقاط.
عندما فاز مرسي في نهاية المطاف بنسبة أقل من ٥٢٪ من الأصوات، أدرك بشكل أعمق أهمية الحكمة السالفة الذكر، فمصر بلد في حالة انقسام شديد، ونصف الشعب كان قلقًا منه ومن الإخوان ومن الإسلاميين. فقد تأكد له أنه لكي يحكم، وليرسخ لسلام مجتمعي في مجتمع لايزال ثائرًا، وأنه لو حصل أن فاز بفترة ثانية، فعليه وعلى الإخوان المسلمين أن يجتذبوا أوسع قاعدة شعبية ممكنة، وأن محاولة إرضاء قاعدتهم الشعبية الأيديولوجية فقط سيكون انتحارًا سياسيًا.
وبتنحية العرض الذي قام به الرئيس المنتخب بأداء القسم بشكل رمزي غير رسمي في ميدان التحرير جانبًا، فاتحًا سترته ليظهر قميصه معلنًا أنه لا يرتدي سترة مضادة للرصاص (وهو ما استثار التأييد العالي الصوت من بعض الجمهور، بينما إستُقبل بلامبالاة أو رفض من البعض الأخر)، فإن أول ما قام به مرسي هو الإدلاء بخطبة عصماء بأداء غلب عليه التبسُط أكد فيها أنه سيكون رئيسا للمصريين كافة، وأنه يهدف أن يخدم كنقطة ارتكاز لحوار وطني، بدلا من السعي خلف أجندة شخصية أو أيدلوجية. كما تابع ذلك بتجميع القوى الوطنية في حكومة ائتلافية، وفق ما اتفق عليه في ”إتفاقية فيرمونت”. ولكن بعد مناقشات ساخنة، تمخضت الترشيحات عن تنصيب حكومة ”تكنوقراطية” متوازنة سياسيًا من كامل الطيف السياسي، وهو ما أثار حالة من الارتياح الوطني والفرحة الواضحة.
لم تحكم الحكومة بتناغم مستمر حتى الآن، كما أن الاختلافات الداخلية كانت ظاهرة وقوية، ولكن هذا كان متوقعًا من تحالف ايديولوجي موسع. ومع أنها قامت بهذا بشكل كبير كذلك من أجل تفادي اللوم السياسي من أجل تأمين الغطاء السياسي اللازم للقرارت الصعبة حول تعديل الدعم ، وغيره من المواضيع، فإن إدارة مرسي عرفت بطابع من الذكاء واتباع صيغة تشريعية تتسم بالحرص وتركز على الشفافية الشديدة حول معظم القضايا، عارضةً معظم مسودات القوانين أمام العامة والنقاشات السياسية المطولة والتعديل، وهذا للتأكد من التغطية السياسية الكافية قبل التوقيع على المسودة النهائية وإصدارها كقانون. ولكن العيب الأساسي لهذه العملية ظل بطئ خطاها--وغالبًا تثبيطها للعزيمة (مثل المفاوضات التي نجحت حديثا مع صندوق النقد الدولي)، ولكن إيجابياتها، وبخاصة في بلد مع بعد الثورة، كانت عميقة، وتأثيرها على الثقافة السياسية كذلك كان عظيمًا.
ثم قام الرئيس بعد هذا بإعلان هائل بأنه سيعين ثلاث نواب له، بينهما قبطي وامرأة، وهو ما أشعل أحد أهم النقاشات الوطنية في التاريخ المعاصر. قام الرئيس في نهاية المطاف بتعيين ثلاث مستشارين ولكنه اقر تركيبة مخالفة. فقد عين قيادي ليبرالي معارض، وسفيرة سابقة قبطية، وشاب من التيار الإسلامي المعتدل كنواب للرئيس. وعلى الارغم من إنتقاد البعض لعدم تمسكه بتعهده، فقد علم الجميع أن ما حدث ليس بالضرورة أشد سوءً، وأن نائبا شابًا للرئيس هو أيضًا انتصار لدولة لا تزال معتادة على أن يحكمها الرجال الأكبر سنا. وقد رحب بهذه التعيينات كأنتصارات للثورة وقد ساهمت بقوة في تقوية دعائم الرئيس كرئيس مناصر للديمقراطية، حتى أن هذا أكسبه ترحيب عاطفيًا من البابا تواضروس الثاني في احتفالية قداس تنصيبه. وقد حضر الرئيس حفل التنصيب على الرغم من تظاهر الأعضاء الأكثر تشددَا في قاعدته ، والذين لم يستسيغوا أيضًا بعض تعييناته ومركزيته الوسطية الراسخة، ولكن الرئيس عرف ماهو صحيح وضروري للمضي بالبلاد قدمًا.
كما أتخذ مرسي أيضًا خطوات فورية للتعامل مع تخوفات الأقباط المصريين، فقد دفع بتحسينات مرحبة لقانون مكافحة التمييز ، كما أنه دشن حملة وطنية بالتعاون مع الأزهر من أجل القضاء على العنف الطائفي. ثم تحرك الرئيس متخذًا خطوات هامة، أغضبت جرأتها حتى بعض من مؤيديه وفاجئت المعارضة، بل جردت فعليًا غالبية هذه المعارضة بأكثر من صورة، فقد ألغى وزارة الإعلام ذات الطابع البروباجاندي والسلطوي ، ووضع مجلسًا متوازنًا سياسيًا من أجل مراقبة تحويل نشاطات الوزارة إلى هيئة وطنية مستقلة محايدة. كما عمل مع مجلس الشورى، من أجل إنشاء مجلس متزن لإختيار رؤساء تحرير الصحف القومية، وذلك حتى الانتهاء من مناقشة مصير تلك الصحف. وقد عُرف يوم ٢٩ أكتوبر بأنه اليوم الذي شهد لأول مرة في تاريخ مصر انتقاد الأهرام على صفحاتها الأولى لرئيس حالي بدلا من عملها المعتاد سابقا كبوق للنظام. كما قام الرئيس بحركة تشريعية جريئة عندما عندما قام بإستخدام سلطاته التشريعية المؤقتة (والتي حاز عليها عندما اتحد مع القوى السياسية الأخرى بنجاح في دعوة الجيش للخروج من الساحة السياسية) لإلغاء جريمة ”إهانة الرئيس” من القانون، وجعل الجرائم المشابهة (مثل ”إهانة القضاء”) مطبقة فقط إذا ما قام الكيان ذو الصلة فقط برفع دعوى، كما أنه طالب بإصلاح شامل لهذه التهم التي ”عفا عليها الزمان” بحد وصفه، بالإضافة إلى إصلاح القوانين المنظمة للإعلام. استجاب الإعلام البديل في اليوم التالي، في ١٤ أكتوبر، بتقديم تحية خالصة للرئيس على صفحاته الأولى وبثه المباشر، وهو ما كان بالفعل لحظة وبادرة وطنية تاريخية.
كما استطاع الرئيس أيضًا عقد صفقة مع القوى الوطنية الفاعلة، وهي الصفقة التي يشيد بها البعض كإجراء فعال للمرور بمصر خلال الفترة الإنتقالية بشكل أكثر هدوءا مما كان سيحدث بدون الوصول إليها. فقد اتفقوا على الابتعاد عن المنافسة التشريعية أو دفع الدولة للتحرك في بعض القضايا الأكثر إثارة للجدل خلال هذه الفترة الرئاسية والبرلمان القادم، اللهم إلا لو كان هناك إجماع على إصلاحات معينة، في المقابل، فقد نُظم حوار سياسي وطني لرأب الصدع الليبرالي-المحافظ بطريقة تسمح بالتعامل مع تخوفات جميع الأطراف بقدر المستطاع.
كما أظهر مرسي بصيرة نافذة في توخي العواقب حينما تصدى للضغوط من جانبي الطيف السياسي، محافظًا على دور وسطي إيجابي في حل الصراعات حول الجمعية التأسيسية. فبينما وجد البعض أن التسوية النهائية التي وافقت القوى السياسية عليها ليست أفضل ما كان في الإمكان، ولكنها كانت براجماتية وفعالة بالقدر الكافي. ومسودة الدستور ذاتها، والتي صدرت منذ أسبوعين فقط، نالت تأييد كل القوى السياسية والفاعلة المهمة، وخصص لها شهر للنقاش والحوار الشعبي وذلك قبل الاستفتاء عليها في فبراير. فعلى الرغم أنها ليست أروع وثيقة مكتوبة في العالم، ولكنها توافقية وأظهرت تقدمًا عندستور ١٩٧١، وهي تستطيع تجنيب البلاد الدخول في نفق سياسي مظلم كنتاج لمواجهة شاملة ومدمرة حول ما يعنيه أن يكون الدستور المؤسس الرئيس لشخصية البلاد. وقد أتفقت القوى السياسية المصرية على ألا تسعى لتغيير هذا الدستور الحائز على التوافق للعشر سنوات القادمة من دون إجماع، وهذا أيضًا كان بمبادرة مرسي، من أجل أن يكون تركيز النقاش الوطني على الإصلاحات الوطنية الملحة واللازمة.
ومن الجدير بالذكر كذلك أن مرسي نجح في أن يصطف حوله ائتلاف سياسي موسع ممن دعموه في تفعيل اصلاحات هامة أخرى، منها تعيين نائب عام بناء على ترشيح القضاة، وإدخال عناصر مراقبة مدنية وأمين للمظالم في وزارة الداخلية، بالإضافة إلى سن مدونة جديدة لقواعد السلوك التي تحكم سلوك الشرطة في البلاد، وهو الجهاز الذي طالما أثار الذعر في سابق عهده. ومن اللحظات الهامة في رئاسة مرسي حتى اليوم كان فيديو مسرب لضابط شرطة قام بإخضاع أحد المتظاهرين للعنف الشديد غير المبرر، وقد قاد مرسي القضية بنفسه لتقديم الظابط للمحاكمة ولتقديمه للعدالة في قضية فارقة، استمرت توابعها في إثارة ردود الأفعال، وهو ما نتج عنه بعض التوترات المتوقعة مع وزارة الداخلية وفق ما أفادته تقارير حديثة.
لا يعني هذا بحال أن رئاسة مرسي كانت كاملة، فعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي العام في يناير دلت على أن نسبة تأييد الرأي العام له بين 67-71٪، .فإن منتقديه يقولون أنه كان يحاول بشكل متزايد في الآونة الأخيرة معالجة شواغل قاعدته الانتخابية، وأن بعض تصريحاته الأخيرة أثارت انتقادات لكونها غامضة حيال قضايا حقوقية معينة على سبيل المثال. ولكن الغموض هم ما يراه ويفهمه البعض كأمر حتمي--ولو جزئيًا--نظرا لدور المصالحة والمركز الوسطي الذي يرغب مرسي أن يلعبه. وعلى أية حال، يمكن للمرء التأكد من شيء واحد، فقد حُفظ تحول مصر إلى الديمقراطية من الانزلاق في هاوية لا تُعرف نهايتها علي يدي بطل غير متوقع، مرشح رئاسة من التيار الإسلامي وغير معروف نسبيا، رجل يبدو أنه قد قرر أن بناء دولة عادلة وديمقراطية حقيقية كان أكثر أهمية من بناء نظام جديد.
-------------------------
**ملحوظة: هذه المقالة هي رصد خيالي لما كان يمكن لرئاسة بديلة في عهد محمد مرسي أن تكون من وجهة نظر الكاتب. والمقالة بها بعض من المعلومات الحقيقية، وبخاصة ما سبق بداية الرئيس لفترة حكمه.
تسهيلاً على زوارنا الكرام يمكنك الرد من خلال تعليقات الفيسبوك
|
|