العقل السلفي والإخوانى ... من التفكير إلى التكفير
أشرت في المقال السابق إلى أن المنهج الحنبلي قام على منهج سجالي جدالي ينفي رؤية ليثبت أخرى ، ينفي الآخرى ليثبت ذاته !! ولم يكن تثبيت مفهوم ذاته ممكنا إلا بإنشاء مفهوم السنة مقابل البدعة ، فكل ما لا يمكن تسنينه أي دمجه داخل مفهوم السنة بالرؤية الحنبلية، وكل ما يخرج عن حدوده يعتبر ابتداعا مذموما ومخالفة للدين ، لهذا السبب كان هنالك توتر دائما بين العقل والنقل،والسنة والبدعة، وبالتالي بين التقليد والاجتهاد ، والحرفية والمقاصدية . مما حدا بالعقل السلفي إلى ممارسة الإقصاء والتهميش لكل مخالف لتلك المنظومة الحنبلية !!ولا يخفى أنه قد تربى على أصول هذه المنظومة جمهرة من الناس في الماضي والحاضر ، وبالتالي ظهر في اتباعها خشونة، وإفراطا في إشعال معارك طاحنة مع من يستخدم عقله في فهم الوحي تأويلا وتعليلا وتنزيلا ، ففي هذا السياق سجل لنا الملف الشخصي للعقل السلفي الحنبلي أصول وقواعد وفتاوى كثيرة لا تزال تفتك بوحدة الأمة وتبذر عوامل التشرذم والتناحر إلي يومنا هذا ، منها مسائل التكفير، والتبديع ،والقسوة،والجرح والتعديل،والتقول على الخصم والطعن في دينه،بل وتجويز قتله إن لزم الأمر ، وإطلاق دعاوى الإجماع والاتفاق على ذلك !! وفي هذا الصدد أذكر بعض العينات من تلك الأصول والفتاوي حسبما وردت في السجل الشخصي للعقل السلفي ، والتي بدورها مازالت تفتك بجسم الأمة المنهوكة صباحا ومساءا وتوسع من دائرة تشرذمها بإدخالها ساحات معارك تاريخية حيث يقاتل فيها المقاتل ويموت فيه القتيل بالوكالة تحت طائلة(إسلام التاريخ) !!فقد ساق عبدالله بن أحمد بن حنبل(ت 290هـ)في كتابه السنة جملة من اتهامات وشتائم لمن يستخدم عقله ورأيه في النظر والتأويل،والفهم والتنزيل، أو تسول له نفسه أن يتمرد على منظومة العقل النقلي السلفي، كصحائف الاتهامات التي وجهة إلى أبي حنيفة إمام مدرسة العقل والرأي والتي تعد امتدادا لمدرسة عمر الفارق ذي العقل المقاصدي.من تلك الصحائف(بإختصار)وصفه بأنه:(كافر، زنديق، مات جهميا، ما ولد في الإسلام أشأم ولا أضر على الأمة منه ، وأنه نبطي غير عربي ، وأن الخمارين خير من أتباع أبي حنيفة ، وأنه أبو جيفة، وأنه لا يسكن البلد الذي يذكر فيه أبو حنيفة ، وأن استقضاء الحنفية على بلد أشد على الأمة من ظهور الدجال ، وأنه من المرجئة، ويرى السيف على الأمة ،وأنه أول من قال القرآن مخلوق،وأنه يترك الحديث إلى الرأي،وأنه يجب اعتزاله كالأجرب المعدي بجربه،وأنه ترك الدين،وأنا أبا حنيفة وأصحابه شر الطوائف جميعا،وأنه استتيب من الكفر مرتين أو ثلاثا ، واستتيب من كلام الزنادقة مرارا ، وأن بعض فتاواه تشبه فتاوى اليهود،وأن ابا حنيفة يرى أن إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق واحد،وأن حماد بن سلمه كان يقول:إني لأرجو أن يدخل الله أبا حنيفة نار جهنم)!!(1)كذلك جاء في طبقات الحنابلة(لابن أبي يعلى)،عن أئمة الحنابلة وعلى رأسهم أحمد، استحلال دم من يقول بخلق القرآن،وأنه لا يسمع ممن لم يكفرهم ولا يسلم عليه ولو كان من الأقارب،ولا تشهد لهم جنائز ولا يعادون في مرضهم !! وجاء نص أخر:(..أن من هذه مقالته إن لم يتب لم يناكح،ولا يجوز قضاؤه،ولا تؤكل ذبيحته).وله في التكفير المعين أقوالا منها،(أن الحسين الكرابيسي عندنا كافر).(طبقات الحنابلة)والكرابيسي هذا من كبار علماء الشافعية ومن أهل الجرح والتعديل !!وعندما علم الإمام أحمد أن ابن أبي قتيلة ذم أصحاب الحديث بقوله أنهم (قوم سوء)قام أحمد بن حنبل وهو يقول:(زنديق،زنديق، زنديق).(طبقات الحنابلة)وعندما سأله رجل:أصلى خلف من يشرب المسكر؟ قال:لا. قال الرجل:فأصلي خلف من يقول القرآن مخلوق ؟ قال أحمد: سبحان الله،أنهاك عن مسلم تسألني عن كافر!!).
(طبقات الحنابلة) وقوله:
(يستعان باليهود والنصارى،ولا يستعان بأهل الأهواء)!!
(مناقب أحمد لابن الجوزي)ومعلوم بأن أهل الأهواء والبدع هم الذين خرجوا عن حدود منظومة العقل السلفي بالرؤية الحنبلية،وهم بالضرورة الذين جعلوا للعقل مكانا عليا من حيث أنه مناط التكليف في فهم دلالات الوحي ومناطات تنزيله
(فهما وإيقاعا).[/color]
[color=#663333]ولن يجهد السلفي عقله بالتفكير والتحليل، والنقد والتمييز، وإعادة النظر والمراجعة،مادام
(السلف)وعلى رأسهم ابن حنبل إمام أهل السنة والجماعة، قد قالوا قولهم الفصل في المخالف !! ومعلوم أن هذه الأصول والقواعد لم تتمكن من عقول الناس إلا في المرحلة التي نال بعدها الإمام أحمد لقب
(إمام أهل السنة والجماعة)بعد أن ظل المشكل السياسي يشكل بؤرة الصراع وأساس الافتراق بين الطوائف والذي سلت بسببه الإلسن بالتكفير والسيوف بالمقاصل. ويبدو لنا ذلك من خلال أساليب الافتراء على الخصوم السياسيين والعقديين ، كمثل زعمهم أن جهم بن صفوان كان يريد أن يمحو آية
(الرحمن على العرش استوى)ويزعمون بأنه يصلى على عيسى ولا يصلى على النبي محمد،وأنه يحل المسكر
(انظر:السنة)وقولهم أن بشر المريسي وأصحابه لا يدرون ما يعبدون
(السنة)وزعمهم أن من قال القرآن مخلوق فهو يعبد صنما،وأنه قد قال على الله ما لم تقله اليهود والنصارى .
(كتاب السنة) وقد عنون عبدالله بن أحمد عنوانا في كتابه
(باب من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام.وزعم أن أبا حنيفة يزعم أن النبي لو أدركه لأخذ بكثير من قوله.(انظر كتاب:السنة)وهكذا تدرج العقل السلفي من إلغاء العقل إلى الإكتفاء بالنقل ، ومن عدم التفكير إلى ضرورة التكفير والتبديع ، ثم إلى ممارسة العنف ضد خصومه بقسوة وشراهة ، وذلك ما وقع مع الإمام ابن جرير الطبري المؤرخ والمفسر المشهور فقد حوصر في بيته حتى دفن في بيته وادعو عليه الرفض والإلحاد(انظر:مسكويه في كتابه تجارب الأمم) والحقيقة أن ابن جرير نقد عقل أحمد بن حنبل وعقيدته ولم يعده من الفقهاء ، فكان جزاءه رميا بالحجارة حتى الموت !! وذكر ابن الاثير في حوادث(567)أنهم سموا الفقيه البوري الشافعي فأصابه إسهال إلى أن مات من حلوى أعطاه إياه الحنابلة وكان يذمهم،وكذلك أبو بكر بن فورك لقى نفس المصير (2)!!ومهما يكن من أمر فإن ثمة تقارب وتداخل بين العقدي والعملي ، وبين العقل السلفي والعنف في المنظومة الحنبلية ، وهذا التداخل هو الذي ورط جل الحركات السلفية المعاصرة(التقليدية-والجهادية) في إشعال معارك تاريخية بالنيابة في الأسماء والصفات، والهيئة واللباس ، والتقليد والاجتهاد ، والعقل والنقل ، والتي اسفرت عن تكفير وقتل وقتال لا زالت رحاه مستمرة إلى يومنا هذا !!ولعل هذا الاعتبار الذي نبديه في مقالاتي هذه بإعادة النظر والمراجعة والفرز بين دائرة إسلام النص وإسلام التاريخ ، وبين المقدس والبشري ، وبين النص والفتوى تتأكد أهميته أكثر عندما ننظر إلى واقع الأمة المزري وما آل إليه أمرها من تناحر وتخلف والتي دشنه التقليد والضمور وعدم الفهم والتجديد !!