حاكم مصر يحرر القدس للمرة الرابعة ويزين شوارع القاهرة برقاب «الفرنجة» (2)
تصوير : other
أشار «منتدى شباب بطاش»، في موضوع سابق بعنوان «الملك الكامل.. حاكم مصر الذي تنازل عن القدس بعد أن حررها (صلاح الدين)»، إلى أن الملك الكامل الأيوبي، حاكم مصر، تنازل عن القدس، بموجب اتفاقية مع الإمبراطور فردريك الثاني.
وكان الجيش الإسلامي حرر القدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب من الإمبراطورية البيزنطية، للمرة الأولى عام 637 ميلاديًا، واستمرت المدينة تحت حكم المسلمين حتى استولى عليها الصلبيون عام 1099 ميلادية، وحكموها لمدة 91 عامًا، حتى ظهر القائد صلاح الدين وحررها للمرة الثانية بعد عمر بن الخطاب، في معركة حطين مع الصليبيين، عام 1181، لكن لم تستمر المدينة محررة إلا عدة أعوام حتى تنازل عنها الملك الكامل 1229، ثم حررها الملك الناصر داوود مرة آخرى 1239ميلاديًا، وبعدها سُلمت للمرة الثانية للفرنج، قبل أن يقوم الملك الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر، بتحريرها نهائيًا 1244ميلاديًا، لتمكث في يد المسلمين حتى عام 1948.
الناصر داود والتحرير الثاني للقدسويسرد المؤرخ الفلسطيني خليل عثامنة، أستاذ التاريخ بجامعة «بير زيت» الفلسطينية، في كتابه «فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي»، تفاصيل التحرير الثاني للقدس بعد اتفاقية يافا، قائلا: «انتهت مدة الصلح التي نصت عليها اتفاقية يافا بين الملك الكامل، سلطان مصر، وبين الإمبراطور الفرنجي، فردريك الثاني بحلول السنة العاشرة من الهدنة بين الطرفين في سنة 1239، وكانت مملكة بيت المقدس لا تزال تعاني جراء آثار لاضطراب السياسي الذي أصابها بعد رحيل الإمبراطور عائداً إلى صقلية، وظل عرش المملكة شاغراً مع حلول هذه السنة، ومع ذلك ظلت مدينة القدس في أيدي الفرنجة، منذ أن سلمت لهم قبل عشرة أعوام، وكانت لا تزال من دون أسوار وتحصينات التزاماً ببنود اتفاقية يافا، الأمر الذي جعلها هدفاً سهلاً أمام أي محاولة إسلامية لاستعادتها، ولما قاربت فترة الهدنة على نهايتها قام الصليبيون، مستغلين انشغال الحكام الأيوبيين بصراعاتهم الداخلية، بعمليات ترميم أسوار مدينة القدس وأبراج قلعتها التي لم يكن قائماً منها سوى برج داوود بعد أن تركه المعظم عيسى سالماً ولم يدمره حين أمر بهدم أسوار المدينة وتحصيناتها إبان أزمة دمياط».
ويضيف: «تزامن الإجراء الفرنجي مع وصول الحملة الصليبية الفرنسية التي خرجت في هذه السنة استجابة للدعوة البابوية، وانطلقت من كنيسة الحبر الأعظم في روما، لتجنيد رعاياها الأوروبيين للحفاظ على سيطرة الصليبيين على مدينة القدس، وانخرط في هذه الحملة أربعة من كبار أمراء المقاطعات الفرنسية، وعلى رأسهم أمير مقاطعة شامبين ثيوبولد الرابع».
ويتابع: «كانت الترميمات التي أجراها الفرنجة في القدس خرقًا صريحًا لاتفاقية صلح يافا، وعلى الرغم من ذلك لم يتحرك أحد من الملوك الأيوبيين سوى الناصر داوود للتصدي لهذا الخرق، وعندما نما إلى علم الناصر داوود بإعادة إعمار قلعة القدس، توجه على رأس جيشه وحاصر المدينة ورماها بالمنجنيق حتى دخلها عنوة بعد 21 يومًا من الحصار، وتحصن المدافعون من الصليبيين في برج داوود فحاصرهم وضيق عليهم حتى أذعنوا له بعد أن منحهم الأمان، وذلك في 1239م، بعد أن ظلت المدينة تحت سيطرة الفرنجة ما يقارب من 11 عامًا، ثم جعلها مقرًا له».
القدس تُسلم للفرنج مرة آخرىويحكي «عثامنة» تفاصيل تسليم القدس مرة آخرى للفرنج، قائلًا: «عندما حرر الملك الناصر داوود بيت المقدس من أيدي الصليبيين، كان الصالح أيوب ابن الملك الكامل لا يزال معتقلاً عنده في قلعة الكرك، ولم يستجب الملك الناصر لطلب العادل تسليمه أخاه، لأنه كان يرى فيه ورقة رابحة يستطيع استخدامها في الوقت المناسب، وغني عن الذكر أن سياسة الناصر داوود كانت تتمحور حول هدف استراتيجي واحد ووحيد هو استعادة عرش دمشق الذي أخذه منه عماه الملك الكامل والملك الأشرف».
ويتابع: «في أواخر رمضان 637ﻫ أبريل 1240م، أفرج الناصر داوود عن الصالح أيوب بعد سبعة أشهر من الأسر، واستدعاه ليلتحق به، وكان حينها في مدينة نابلس، ثم أعلن بيعته بالسلطنة للصالح أيوب، وأمر بالخطبة له بعد أن قطع الخطبة لأخيه العادل الثاني، ولدى انتشار خبر هذه البيعة أخذ أنصار الصالح أيوب ومماليكه يتوافدون إلى نابلس لوضع أنفسهم في خدمته وفي تصرفه، فخرج الناصر داوود ومعه الصالح أيوب، مرشحه لسلطنة مصر، إلى بيت المقدس حيث عقدا حلفاً بينهما عند الصخرة المشرفة عرف باسم حلف الصخرة، تقتسم بموجبه المملكة الأيوبية بينهما، فتكون مصر لصالح أيوب، وتكون بلاد الشام وبلاد المشرق للناصر داوود بعد أن يعاد له عرش مدينة دمشق».
ويستكمل: «بعد عقد حلف الصخرة خرج الحليفان نحو مصر وعسكرا بالقرب من مدينة غزة انتظاراً لوصول المؤيدين والأنصار. وإزاء هذه الحركة أخرج العادل الثاني جيشاً من مصر للقضاء على عسكر الحليفين، فأقام معسكره في بلبيس على الطريق إلى غزة، وكتب إلى عمه الصالح إسماعيل، ملك دمشق، ليرسل جيشاً نحو فلسطين، كي يضعا جيش الحليفين الخصمين بين فكي الكماشة، بين جيش مصر وجيش دمشق. وخوفاً من الوقوع في هذا الشرك لم يجد الحليفان، الناصر داوود والصالح أيوب، بداً من ترك غزة والتراجع شمالاً، إذ عادا إلى مدينة نابلس وأخذا ينتظران ما سيحدث وهما في حيرة من أمرهما».
ويروي المؤرخ «ابن واصل» في هذا الصدد قائلًا: «بينما كان الصالح أيوب يقف على جبل الطور يأتيه بكتاب أرسله قادة من عساكر مصر يستدعونه فيه إلى مصر ليولوه السلطنة، وكان عسكر مصر انقلبوا على العادل الثاني واعتقلوه في المعسكر الذي أقاموه في بلبيس، ثم توالت بعد ذلك رسائل أخرى من قادة مصريين آخرين يلحون في سرعة الوصول إلى القاهرة».
ويتابع «ابن واصل»: «لم يطل انتظار الصالح أيوب في نابلس، فوصل إلى مصر بصحبة الملك الناصر داود حليفه، وتسلم سلطنة مصر، وتلقى بيعة العساكر والأعيان فيها، فتمت له السيطرة على مقاليد الأمور، وكما تنكر العادل الثاني لوعوده التي قطعها من قبل للناصر داوود، تنكر كذلك حليفه الجديد الصالح أيوب للوعد الذي قطعه له بمقتضى حلف الصخرة، فعاد الناصر داوود على جناح السرعة إلى فلسطين بعد أن أستأذن مضيفه في السفر، وكانت بلغته أيضاً أمور أزعجته بعد أن قام الفرنجة بتحريض من الصالح إسماعيل، بالإغارة على المدينة فنهبوها وأسروا بعض أهلها حتى أنهم سلبوا منبر مسجدها، انضم الناصر داوود بعد عودته إلى فلسطين إلى التحالف المعادي للصالح أيوب، والذي كان يقف على رأسه الصالح إسماعيل، ملك دمشق، فلما أرسل الصالح أيوب جيشاً إلى فلسطين اشتبك جيش الناصر داوود معه قرب مدينة القدس، وأوقع في جيش مصر هزيمة بعد أن أسر بعض قادته».
ويضيف «عثامنة»: «نظراً إلى حرص الصالح إسماعيل على ضم الفرنجة إلى تحالفه المعادي للصالح أيوب، فإنه أظهر سخاء غير مسبوق كي يوافقوا على الانضمام إلى الحلف، إذ وعدهم بالتنازل عن أجزاء من لبنان، بالإضافة إلى حصة المسلمين في خراج مدينة صيدا. وفي فلسطين تنازل لهم عن مدينة القدس بمزاراتها كافة، مخلا منطقة الحرم الشريف، وشملت قائمة التنازلات عدداً من القلاع المهمة التي سبق أن حررها السلطان صلاح الدين، مثل صفد وطبرية وتبنين وشقيف أرنون وهونين وتيرون، وكانت في هذا الوقت مدمرة، لكن كان من السهل تحويلها إلى قلاع حصينة بعد شيء من الترميم، وهو ما فعله الفرنجة بالنسبة إلى بعضها».
الخوارزميون والملك الصالح يحررون القدسوبحسب «عثامنة»: «أغلق التحالف الأيوبي- الفرنجي ضد الصالح أيوب كل الأبواب أمامه لإيجاد حليف يقف إلى جانبه في بلاد الشام، اللهم إلا ملك حماة التي بقيت شبه جيب معزول تطوقه بلاد أعضاء التحالف، ولم يبق أمامه إلا مواليه من الخوارزمية ممن كانوا أعلنوا ولاءهم له عندما كان ينوب عن أبيه في الولايات الشرقية، وكأنه ادخرهم لمثل هذا اليوم، فأرسل إليهم كتاباً في أواخر سنة 641ﻫ يونيو 1244م يستحثهم على الحضور».
ويتابع: «لما استلم الخوارزمية رسالة الصالح أيوب التي يدعوهم فيها إلى دعمه ونصرته خرجت طلائعهم في مستهل سنة 642ﻫ/1244م، وقطعت نهر الفرات نحو بلاد الشام، انقسموا إلى فرقتين: واحدة أخذت طريق البقاع من تحت بعلبك، وأخذت الأخرى طريق الغوطة، وأمعنوا في النهب والقتل، وعندما وصلت أخبارهم إلى مسامع الناس انزووا عن طريقهم ولاذوا بالفرار، حتى أن الصالح إسماعيل، ملك دمشق رأس التحالف المعادي للصالح أيوب، استدعى قواته وكتائبه المنتشرة وتحصن داخل مدينة دمشق».
ويضيف: «كانت مدينة القدس أول مدينة استهدفها الخوارزمية، ففر الناصر داوود ومعه قواته، وكان مرابطاً على مقربة من المدينة، ودخل الكرك، أما قوات الفرنجة التي كانت ترابط فيها، فأسرعت في الانسحاب منها، فاقتحم الخوارزمية المدينة وبذلوا في أهلها من النصارى السيف من دون تمييز وأخذوا النساء والأطفال أسرى، ثم دخلوا كنيسة القيامة ونبشوا القبور التي فيها، ومنها مرقد المسيح، وأحرقوا عظام الموتى، وبعد فراغهم من القدس توجهوا نحو مدينة غزة، وضربوا معسكرهم على مشارفها، ثم أرسلوا إلى الصالح أيوب يبلغونه بوصولهم، فأرسل إلى قادتهم ومقدميهم الخلع والأموال والهدايا».
يتابع: «في هذه الآونة خرج من مصر جيشان: كان يقود الأول ركن الدين بيبرس البندقداري، مملوك الصالح أيوب الذي كان معتقلاً معه في قلعة الكرك، فنزل غزة وانضم إلى الخوارزمية. وكان يقود الجيش الآخر الأمير حسام الدين أبوعلى الهذباني وتمركز في مدينة نابلس، أما جيوش التحالف الشامي-الفرنجي فكانت احتشدت في غزة استعداداً لغزو مصر، ولما تكامل وصول الخوارزمية وعساكر مصر حدث الاشتباك ودارت الدائرة على جيوش التحالف، ففر قادتها ومقدموها حتى دخلوا دمشق، ثم أحاط الخوارزمية بعسكر الفرنجة ووضعوا السيف فيهم قتلاً وأسراً، وسيق أسراهم إلى القاهرة وكانوا بالمئات، فأمر الصالح أيوب بأن تزين شوارع القاهرة احتفاء بالنصر».