فوائد السلوك إلى الله – الدرس 1 / 4 : الفائدة 19 عن تقْديم محبَّة الله على غيره ،
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة المؤمنون ، عالمٌ جليل ألَّفَ كتاباً أوْدَعَ فيه بعض الفوائِد ، وهذه الفوائِدُ قيِّمَةٌ جداً ، سأخْتارُ لكم في هذه الدروس إن شاء الله تعالى بعضاً من هذه الفوائِد ونعيشُ في معانيها لَعَلَّ الله سبحانه وتعالى ينْفَعُنا بها.
فالفائِدَةُ التي رُقِّمَت بالتاسَعة عشرة يقول فيها مُؤَلِّفُ الكتاب : من أعْجَب الأشْياء أنْ تعرِفَهُ ثمَّ لا تُحِبُّه ، يقولون إنَّ في الدنيا عجائِبٌ ، وعجائِبُ الدنيا سبْعٌ لكنّ أعْجَبَ العجائِب ؛ أنْ تعْرِفَ أنَّ الله بِيَدِهِ كُلُّ شيء ، وأنَّهُ رحْمنٌ رحيم ، وأنَّهُ على كُلِّ شيء قدير، وأنَّ الأمر كُلَّهُ راجِعٌ إليه ، وأنَّهُ بِيَدِهِ مقاليدُ السماوات والأرض ، وأنَّ أسْماءَهُ حُسْنى وصِفاتِه فُضْلى ، ومع ذلك لا تُحِبُّه وتُحِبُّ سِواه ؛ هذا من العَجَبِ العُجاب ، من أعْجَب الأشْياء أنْ تعرِفَهُ ثمَّ لا تُحِبُّه ، فالإنسانُ يُحِبُّ الكمال والجمال والنوال ، إنسان إن أعْطاكَ بيْتاً يمتلىءْ قلبك حُباً له - بِصَرْف النظر عن شكْله ، ولو كان دميماً - وذاك إنسان وقف مَوْقِفاً كاملاً ولو لم يُصِبْك من كماله شيء ، مَوْقِفٌ فيه شهامة ومُروءة ورُجولة ومُؤاثرة فإنك تحبه ، وكذا من أوْدَعَ الله فيه مسْحَة من الجمال تُحِبُّهُ أيْضاً فالنَّفْسُ البَشَرِيَّةُ مَفْطورةٌ على حُبِّ الجمال، وحُبِّ الكمال ، وحُبِّ النوال وهي لا تجْتَمِعُ في إنْسان ، لكِنَّها مجْموعَةٌ في الواحد الدَيان ؛ كمال وجمال ونوال . وأنت حَسَنة من حسنات الله تعالى ، وُجودُكَ مِنْحة ، وإمْدادُك بما تحْتاج فضْل ، هِدايَتُك إليه فضْلٌ كبير ، ولكن نحن من ضيقِ أُفقنا نرى الشيء المألوف وهو عظيم ثم ننْساه، هناك زوجة وأولاد في البيت يمْلؤون البيت فرْحَةً ؛ من صَمَّمَهم ، ومن أبْدَعَهُم بهذا الشكْل اللطيف ، وبهذا الشَّكل المُحَبَّب ؟ الله جل جلاله ، أوْدَعَ في طعامك لَذَّة ، من الذي أذاقك إياها ؟ أوْدَعَ في الطعام قُوَّة فمن منَحَكَ إياها ؟ وجعل في الكَوْن أماكن جميلة جداً لِتَسْتَمْتِعَ بها ، فالله جميل وكامل، وستار العُيوب وغفارالذنوب، يُقيل عثرات العاثرين ويقبل توبة التائِبين ، ويتجاوز عن سيِّئات عباده المُصلحين ، فمن أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ولا تُحِبُّه ، إذاً تُحِبُّ من ؟ تحِبُّ مَخْلوقاً دونه ، تُحِبُّ من يفْنى ، تحب من يُقابل الكرم باللؤم ، هناك أُناسٌ كثيرون تُحْسِنُ إليهم الدَّهْر كُلَّهُ ثمَّ يُقابلون إحْسانك بالإساءة ، قال سيدنا عليٌّ كَرَّم وَجْهه : والله ثمَّ والله - مرَّتَين - لَحَفْرُ بئرين بِإبْرَتَين ، وكَنْسُ أرْض الحِجاز بِريشَتَين، ونَقْل بَحْرَين بِمِنْخَلَين ، وغَسْلُ عَبْدَين أسْوَدَين حتى يصيرا أبْيَضَيْن أَهْوَنُ عَلَيَّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لِوَفاء دَيْن ! قال تعالى :
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
[النمل : الآية 62]
العلماء قالوا : المُضْطر والمظْلوم مُسْتَثْنيان من شروْط الدعاء لأنّ الله تعالى يُجيبُ المُضْطَر لا بِحَسَبِ حال الداعي بل بِحَسَب حال المَدْعو ؛ رَحْمَتُه تقتضي أنْ يُجيبهُ ، ويُجيب دعاء المظْلوم لا بِحَسَبِ حاله فقد يكون كافِراً بل بِحَسَبِ عَدْلِه سبحانه.
فقال (عليه رحْمةُ الله): من أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحَبَّهُ ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾
[البقرة الآية 165]
ويا أيها الإخوة الكرام ، والله الذي لا إله إلا هو قَبيحٌ بالإنسان أنْ يُحِبَّ غير الله ، بل مَغْبونٌ من أَحَبَّ غير الله ، لأنَّ الله تعالى أهل التَّقْوى وأهْلُ المَغْفرة ، فهُوَ أهْلٌ أنْ تُفْنِيَ شبابك في سبيله وهو أهْلٌ أنْ تمضي عُمرك في طاعته ، وهو أهل أن تَهَبَهُ قلْبَك ، قال تعالى :
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[الأنعام : الآية 162]