أحْياناً يسمر الإنسان مع أصْدِقائِه ، فإذا بالسَّهْرة تنْتهي وبَدَنُه مُكَسَّر ! فالحديث كُلُّه كان عن الدنيا.
قال : وأن تذوق عَصْرة القلب عند الخَوْض في حديث غير حديثه ، ثمَّ لا تشْتاق إلى انْشِراح الصَّدْر بِذِكْرِهِ ومُناجاتِه ؛ هذه أيْضاً من عجائِب الدنيا لذلك المؤمن حديثه عن الله دائِماً ، ولا يُسْعِدُهُ إلا الحديث عن الله عز وجل ، ولا يُسْعِدُهُ إلا ذِكْر الله وما والاه .
قال : وأن تذوق العذاب عند تَعَلُّق القلب بِغَيْر الله ، إذا تَعَلَّقْتَ بِغَيْر الله وَجَدْتَ وَحْشَةً ، والإنسان ضعيف ، قد يكون أحْياناً مُتألِّقاً فإذا أقْبَلْتَ على الله شَعَرْتَ بِسَعادة ، وقد يكون غافِلاً وفاتراً فتأتيه مُقْبلا فلا شيء عنده ، أما إذا كنت مع المؤمنين الصادقين فالأمر خِلاف هذا ، والمؤمن الصادِق من ميِّزاته ، لا يُصاحب إلا من هو أعْلى منه ، لا تُصاحب من لا يُنْهِضُكَ حاله ولا يَدُلُّك على الله مقالُه .
قال : وأن تذوق العذاب عند تَعَلُّق القلب بِغَيْره ثمَّ لا تهرب منه إلى نعيم الإقْبال عليه ، سَنَجْمَعُهُنَّ بِكَلمات موجَزة ؛ يجبُ أنْ تُحِبَّهُ وأنْ تسْتجيب إلى داعيهِ وأنْ تُعامِلَهُ ، وألّا تتعَرَّض لِغَضَبِه ، وأنْ تطلبَ الأُنْس بِطاعَتِه وأن تتحَدَّثَ عنه دائِماً ، وأنْ تبحَث عن انْشراح صدْرك بالإقْبال عليه ومُناجاته، وأن تهرب إلى نعيم الإقْبال عليه ، هذا هو مُلَخَّص هذه الكلمات وأعْجَبُ من هذا كُلِّه : عِلْمُكَ أنَّهُ لا بدّ لك منه ، وأنَّكَ أحْوَجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرض وفيما يُبْعِدُك عنه راغِب ؛ ليس لك إلا الله ، والله حَدَّثني البارحة إنسانٌ من بلد بعيد فقال لي : إنَّني في المُستشْفى ، وقد لا أخرج منه ، أوصيك بابني خيراً ، وصار يبْكي على الهاتف ، وهو بِبَلَد أجنبي أصابتْهُ أزْمَة قَلْبِيَّة ، ليس له إلا رحْمة الله ، والله إنه إنسانٌ صالح أعرفُهُ ولا أُزَكي على الله أحداً وأنا أُحِبُّه ، من منا يمْلك ساعة قادِمَة ؟! أتمنى على الإنسان أن يعْرف الله وهو في صِحَّة وقوّة وعافية ويُقْبل عليه ويَخْدُم عباده ، أما عند المرض فالكُلُّ يبْكي ، لكن البُطولة وأنت في الرَّخاء ، أكثر شيءٍ لَفَت نظري قَوْلُ سيدنا عَلِيٍّ : والله لو علمت أنّ غداً أجَلي ما قَدَرْتُ أن أزيد في عَمَلي، وكان يقول أيْضاً والله لو كُشِف الغِطاء ما ازْدَدْتُ يقيناً.
قال : أعْجَبُ من هذا كُلِّه عِلْمُكَ أنَّك لا بد لك منه ، وأنت أحْوَجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرض وفيما يُبْعِدُكَ عنه راغِب .
أحْياناً الإنسانُ يُحِبُّ أن يصِل إلى مَوْضوعاتٍ دقيقة في علاقته مع الله ، هناك كلامٌ سطحي للعَوَام ، أما الإنْسانٌ المُلْتَزِمٌ بالمَسْجد من خَمْسَ عشرة سنة مثلاً فعلاقته بربه متميزة ، هناك مَوْضوعاتٍ دقيقة في علاقتك مع الله يجب أن تضع يدك عليها ؛ من هذه الموضوعات
قال: من فَقَدَ أُنْسَهُ بين الناس ، ووَجَدَهُ في الوحْدة فَهُوَ صادِقٌ ضعيف فإذا كان يصلي وَحْده بكى، وإذا قرأ القرآن تأثَّر تأثُّراً شديداً ، وإذا ذكر الله يتألَّق أما مع الناس فله حال آخر ! فَهُوَ صادِقٌ ضعيف .
قال : ومن وَجَدهُ بين الناس وفَقَدَهُ في الخَلْوة فَهُوَ مَعْلول - هذه مُشْكلة - بين الناس يتألَّق ويأنَسُ، أما في حال الخَلْوة لا يشْعر بِشَيْء ، قرأ القرآن فلم يتأثَّر ، وذكر الله فلم يشعر بِشَيْء، فهذا لَدَيْه عِلَّة ، وإذا كان الإنسان مع الناس لا يسْتطيع أن يتكَلَّم كلمة واحدة ، لكن في خَلْوَتِهِ يتأثَّر ، فهذا جيِّد ولكن ضعيف ، هذا الأُنْس من فَقَدَهُ بين الناس ، وفقده في الخَلْوَة معاً فهو ميِّتٌ مطْرود والله عز وجل قال :
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
[النحل : الآية 21]
ومن وَجَدَهُ في الخلوة والناس معاً فَهُوَ المُحِبُّ الصادِقُ القَوِيّ ، فالذي في خَلْوَتِهِ له صِلَة بالله ويتأثَّر و له مشاعر عالية وكذا بين الناس يتألَّق فهذه حالةٌ عالِيَة جداً ، فهذا قَوِيٌّ ومُخْلِص ومَوْصولٌ بالله عز وجل ، هذه أعْلى حالة ، فَصار لدينا أربع حالات : من فقَدَ الأنْس بين الناس ووجَدَهُ في الوَحْدة فهو صادِقٌ ضعيف ومن وَجَدهُ بين الناس وفَقَدَهُ في الخَلْوة فَهُوَ مَعْلول ، ومن فقَدَهُ بين الناس وفي الخَلْوة معاً فَهُوَ ميِّتٌ مَطْرود ، ومن وَجَدَهُ في الخَلْوة والناس معاً فَهُوَ المُحِبُّ الصادق القوِيُّ في حاله ، ومن كان فَتْحُهُ في الخَلْوة لم يكن مزيدُهُ إلا منها ، فإذا كان فَتْحُهُ وإشْراقاتُهُ وتألُّقُهُ في الخَلْوة ، إنْ أراد الزِّيادة فَعَلَيْه بالخَلْوة ، فالذي فُتِحَ عليه بين الناس فَمَزيدُ الفَتْح بين الناس ، والذي فَتَحَ عليه في الخَلْوة فَمَزيدُ الفَتْح في الخَلْوة ، أين صار التألُّق ؟ أردْتَ الزِّيادة فَعَلَيْكَ بِمظانِّها ، هناك من يتألَّق بين المؤمنين ويجود ويتكلَّم بكلام طيِّب فإذا أراد المزيد فعَلَيْه أن يكون بين الناس هكذا دائِماً ، أما هناك إنسان بلغ من الأدب مع الله درجة أنَّهُ لا يرْضى إلا بما أراده الله له ، يجب أنْ تُحِبَّ مُراد الله فيك ، هناك من أقامه بالعِلم وهناك من أقامه بالدَّعْوة ، وآخر أقامه بالعمل الصالح ؛ هذه أبواب إلى الله تعالى كثيرة جداً ، تجد أحْياناً إخوة لهم خَدَمات تفوق حدّ الخيال ، لكن الدرْس لا يقدر على متابعته وليس له قُوَّة الإدْراك لِفَهْم دقائِق الدرْس ، فهذا لا يقِلّ عن أكبر واحد مهتَمّ بالدرْس ، فهؤلاء كُلُّهم عباده ، وكلّ واحد يُقَرِّبُه من زاوية ، فهذا بِماله وذاك بِعِلْمِه وذاك بِذكائِه والآخر بِجاهِه ، فالطرائِق إلى الخلالق بِعَدد أنْفاس الخلائِق .
قال : ومن كان فَتْحُهُ في وُقوفه مع مراد الله حيْث أقامه ، أيْ أقامِكَ مُتَفَرِّغاً أو أقامَكَ غير مُتَفَرِّغ، مثلاً أقامَكَ بِلا أوْلاد ؛ فهذا مُرادُ الله ، أحد إخْواننا جاءَهُ مَوْلود بِعَمَلِيَّة وِلادة صَعْبة فتأذى هذا المَوْلود بِدِماغِهِ فصار عنده حالة اضْطِراب كُلّ دقيقتَيْن ، فأوَّل طبيب قال : هذه أذية ثابتة ومُتنامِيَة وهذا الطِّفْل مصيرُهُ أعْمى أو مَشْلول أو مَجْنون ، وكذا الطبيب الثاني والثالث فأبوهُ رَكِبَهُ الهَمّ وقال : والله أتمنى لو وُلد ميِّتاً ، فَمَرَّةً كان مُنْقَبِض الصدْر بهذا الكلام فألْهَمني الله كلمَةً قُلْتُها له : الذي تُحِبُّهُ هو الله وهذه هي إرادَتُه ألا تَحْتَرِمُها ؟! أحْياناً المؤمن يصِل إلى حالة مع الله يحْترم إرادة الله عز وجل ، هذه مشيئة الله ، سبحان الله بعد شَهْر اِلْتَقَيْنا بِطَبيب فقال هناك مجال للشِّفاء إن شاء الله وكُنتُ مع والد الطفل ، طلب تَصويراً وتحْليلاً وأعْطاهُ أدْوِيَة وبعد فَتْرة كأنّ لم شيئاً يكن ، وهو الآن بالأزْهر يدْرس فأنت ما عليك إلا الرِّضى والله بِيَدِهِ الخير وهو على كُلُّ شيء قدير.
قال : ومن كان فَتْحُهُ في وُقوفه مع مراد الله حيْث أقامه ، وفي أيِّ شيءٍ استَعْملهُ كان مزيدُه في خلْوته ومع الناس ، المُهِمّ أن ترضى بما أقامك الله به ، لكن أنصحُ كُلَّ أخٍ إذا أقامه الله بالحقّ ، وأقامه في الدَّعْوة والعمل الصالح أن يشْكر الله ، فإذا أردْتَ أن تعرف مقامك فانْظر إلى ما اسْتَعْمَلَك فيه .