( التَّرْغِيبُ فِي كَلِمَاتٍ يَقُولُهُنَّ مَنْ يَأْرِقُ أوْ يَفْزَعُ بِاللَّيْلِ ).
هذا الباب عقده المصنّف رحمه الله في بيان الذّكر المشروع الّذي يدفع الأرَق والفزَع باللّيل.
* والأرق - كما في " لسان العرب "- هو:" السّهر، وقد أرِقت بالكسر، أي سهِرت، وكذلك ائترقت ... فأنا أرِق ".
وقال الأزهريّ في "التّهذيب":" الأرَق: ذهابُ النّوم باللّيل "، وقال ابن سيده في " المحكم ":" هو ذهابُ النّوم لعلّة ".
* والفزع هو: الخوف، ويطلق أيضا على الاستغاثة والالتجاء، كما في قول صُهيبٍ رضي الله عنه: ( وَكَانُوا إِذَا فَزِعُوا فَزِعُوا إِلَى الصَّلاَةِ ) [رواه الإمام أحمد].
وهناك حديث مشهور لا يصحّ بلفظ: ( إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطّمع ) أي: تكثرون وقتَ النّجدة والحاجة إليكم، وتقلّون عند الطّمع في الدّنيا.
الحديث الأوّل:
عنْ عمْرِو بنِ شُعيْبٍ، عن أَبِيهِ، عن جدِّهِ، أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ:" أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ، مِنْ غَضَبِهِ، وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ ) فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ ").
[رواه أبو داود، والتّرمذي-واللّفظ له، وقال:" حديث حسن غريب "، والنّسائي، والحاكم، وقال:" صحيح الإسناد "، وليس عنده تخصيصها بالنّوم].
وفي رواية للنّسائي قال:
كَانَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رضي الله عنه رَجُلاً يَفْزَعُ فِي مَنَامِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ النَبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِذَا اضْطَجَعْتَ فَقُلْ:" بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَامَّةِ "))، فذكر مثله.
وقال مالك في " الموطّأ ":
" بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: إِنِّي أُرَوَّعُ فِي مَنَامِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( قُلْ: ... )) فذكر مثله ".
ورواه أحمد عن محمّد بن يحيى بن حبّان، عن الوليد بن الوليد، أنّه قال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً، قَالَ:
(( إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ: ..))، فذكر مثله.
ومحمّد لم يسمع من الوليد.
* شرح الحديث:
- قوله: ( إذا فزِعَ ) - بكسر الزّاي - أي: خاف.
- ( في النَّوْم ) يحتمل معنيين:
الأوّل: في حال النّوم، كأن يرى رؤيا تفزِعه، فيكون من الأذكار الّتي تقال عند الرّؤيا المكروهة؛ ولذلك يذكر العلماء هذا الذّكر من جملة ما يقال عند الرّؤى.
الثّاني: عند إرادة النّوم كما في "تحفة الأحوذي" (9/356)، وربّما دلّ على ذلك الرّواية الّتي سيذكرها المصنّف رحمه الله في قصّة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وفيها قوله: ( إنّي أجدُ وحْشةً ).
فيكون هذا الذّكر من جملة أذكار النّوم الّتي تدفع الفزع والأرق.
- ( أَعُوذ بكلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ ) كلمات الله الكونيّة - وهو كلامه مع خلقه -، وكلماته الشّرعيّة وأعظمها القرآن.
ومعنى تمامها أنّها كاملة في الحسن، شاملة للخير كلّه، فاضلة على غيرها، متحقّقة الوقوع، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، وقوله عزّ وجلّ:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: من الآية137]، وقوله سبحانه:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: من الآية119]، وإذا قضى الله أمراً أتمّه، ولم يتخلّف.
وقد استدلّ علماء أهل السنّة بهذا الذّكر على أنّ كلام الله تبارك وتعالى صفة له غير مخلوق؛ إذ لو كان مخلوقا لما جازت الاستعاذة به.
- ( مِنْ غَضَبِهِ ): يحتمل معنيين:
الأوّل: الاستعاذة من غضب الله تعالى إذا وقع من العبدِ تفريط.
الثّاني: الاستعاذة من أسباب غضب الله جلّ وعلا، فيجنّبه الله المعاصي والموبقات.
- ( وَعِقَابِهِ ) أي عذابه، ( وشرِّ عبادِه ) من ظلمهم، وبغيهم، وسوء فعالِهم.
ويشمل هذا اللّفظ الإنسَ والجنَّ، ثمّ خصّ الشّياطين بالذّكر، فقال:
- ( وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ): لأنّهم ينتشرون باللّيل، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ ))؛ فالظّلام أجمعُ للقُوى الشّيطانية من غيره، وكذلك كلّ سواد، ولهذا قال في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: (( الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ )) أخرجه مسلم.
و( همزات الشّياطين ): نزغاتهم، وخطراتهم، ووساوسهم، وإلقاؤهم الفتنة والعقائد الفاسدة في القلب.
- ( وَأَنْ يَحْضُرُونِ ) أي: ومن أن يحضروني في أموري كالصّلاة، وقراءة القرآن، ومنها النّوم الّذي أتى بالذّكر لأجله، وغير ذلك، لأنّهم إنّما يحضرون بسوء.
- ( فإنّها ) أي الهمزات ( لن تضرّه ) أي إذا دعا بهذا الدّعاء.
وفي هذا الحديث دليل على أنّ الفزع إنّما هو من الشّيطان، كما قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَه} [آل عمران: من الآية175].
وفيه أنّ الذّكر من أعظم ما يُذهب الفزع والخوف، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرّعد:28].
( تنبيه ):
تتمّة الحديث عند التّرمذي وأبي داود أنّ الرّاوي قال:" وَكانَ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو رضي الله عنه يُلَقِّنُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ ". وهي زيادة ضعيفة لا يصحّ؛ لأنّ التّرمذي رواها من غير سند.
وقد اختلف العلماء في تعليق التّعويذات إذا كانت من القرآن أو أذكار السّنة، فمن أجازه تمسّك بهذا الأثر - وقد تبيّن لك ضعفه - فكان الصّحيح هو تحريمَ تعليق آيات القرآن في أعناق الصّبية؛ لسببين:
الأوّل: أنّه لم يَجْر عليه عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا أحدٍ من أصحابه رضي الله عنهم.
الثّاني: لأنّه ذريعة للمشعوذين فيزعمون أنّها من القرآن !
أمّا تعليق الحرز والتّمائم المشتملة على الكلام غير المفهوم، فهو من الشّرك باتّفاق.
* قول المصنّف رحمه الله: ( وفي رواية للنّسائيّ ): أي: في " السّنن الكبرى " خلافا لما يوهمه إطلاقه.
* قوله رحمه الله:" وقال مالك ... ": الصّواب أنّ هذا من قول يحيى بن سعيد الأنصاريّ رحمه الله.
* قوله رحمه الله:" ومحمّد لم يسمع من الوليد ": قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله:" قلت: هذا منكر، والمعروف أنّ القصّة لأخيه خالد بن الوليد، انظر " الصّحيحة " (2738) ".