محمد حموده تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: فوائد من السنة النبوية الإثنين مارس 28, 2011 4:50 pm | |
| فضيلة الشيخ / محمد إسماعيل المقدم
جُبلت النفس البشرية على التطلع إلى مافي أيدي الآخرين، وهذا قد يفظي بها إلى العدوان عليهم، فيعتدي المرء على غيره قاصداً أخْذ ماله، أو إزهاق روحه، أو هتك عرضه، ومن ثَم فقد شُرع في الإسلام دفع هذا المجرم المعتدي بما يسميه الفقهاء (أحكام دفع الصائل)، وفيما يلي بيان لهذا الحكم الشرعي.
شرح حديث: ( مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي ... )
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). هذا الحديث رواه محمد بن نصر في كتابه (تعظيم قدر الصلاة)، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس ، وفيه الحارث بن سعد الإيادي ضعفه الجمهور، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح. ورواه -أيضاً- الطبراني في الأوسط، وابن أبي عاصم في السنة، ورمز السيوطي له بالصحة، وحسنه الألباني . فالحديث هو عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). أما الحلس فهو كساء يبسط ويفرش في أرض البيت، وهو قماش رقيق يوضع على ظهر البعير تحت قتبه، فشبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام بالحلس برؤيته لاصقاً بما تلبس به من هيبة الله تعالى، وشدة فرقه منه، فالسر في هذا التشبيه هو أن الحلس يلصق بالأرض، أو يلصق بظهر البعير، وكذلك هذا الخوف وهذه الخشية من الله سبحانه وتعالى لصيقة بجبريل عليه السلام تماماً كلصوق الحلس بالأرض، أو بظهر البعير. وتلك الخشية التي تلبس بها جبريل عليه السلام هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم، حتى دعي في التنزيل بأنه الرسول الكريم، وعلى قدر خوف العبد من ربه سبحانه وتعالى يكون قربه، فلأن جبريل عليه السلام شديد الخوف والخشية والهيبة لله سبحانه وتعالى فلذلك كان قريباً معظماً عند الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث أن الملائكة بين الخوف والرجاء كسائر المكلفين، مع أن الملائكة لم يخلقوا من نفس طبيعة البشر من حيث وجود الشر أو العصيان، وإنما هم لا وظيفة لهم سوى عبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتحميده والسجود له، ومع ذلك فهم دائماً بين الخوف والرجاء يخافون الله سبحانه وتعالى، فأولى لهم أن يكونوا كالملائكة الذين لا يفعلون المعاصي وهم معصومون منها، فما بالك بمن ليله ونهاره في معصية الله سبحانه وتعالى، فلاشك في أنه لو فقه وعلم حق العلم لكان أشد خشية لله سبحانه وتعالى، فهذا حال جبريل -وهو أفضل الملائكة- يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). فيفهم من ذلك أن الملائكة يكونون بين الخوف من الله سبحانه وتعالى ورجائه كسائر المكلفين. قال الحكيم الترمذي : (وأوفر الخلق حظاً من معرفة الله سبحانه وتعالى أعلمهم به) فكلما زاد علم الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعرف الله أكثر كلما ازداد خوفه من الله عز وجل، وأعظمهم عنده منزلة هو -أيضاً- أخوفهم من الله، وأرفعهم عنده درجة وأقربهم منه وسيلة. فالأنبياء إنما فضلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال، وما ثبت من تفضيل الأنبياء عليهم السلام على سائر البشر ليس بكثرة العمل، بل بكثرة العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعرفون الله عز وجل أكثر، فلو كان تفاضلهم بالأعمال لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، أي لكانت تلك الأمم التي عاشت أكثر منا أفضل عند الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقع، ولكان أنبياؤهم كذلك الذين عمروا وطالت أعمارهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس بذلك، وإنما العبرة بمعرفة الله سبحانه وتعالى وليس بالأعمال، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والرسول صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هو أفضل من نوح، بل أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فدل على أن العبرة في المفاضلة خشية الله، وعظم المعرفة به، وليس بمجرد الأعمال. فهذا نموذج من الغيب الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة رحلة الإسراء. وهذا الملك العظيم جبريل عليه السلام لو تخيلنا عظم خلقه لرأينا أمراً يفوق الوصف، فجبريل رآه النبي عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، هذا هو جبريل وعظيم خلقه، ومع ذلك فانظر إلى خوفه وخشيته لله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الملائكة، فالملائكة قد وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء:26-29]؛ فالملائكة يتصفون بكل صفات العبودية لله سبحانه وتعالى، وهم قائمون بالخدمة بين يديه، ومنقادون لأوامره، وعلم الله سبحانه وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا هذه الأوامر، بل هم خائفون وجلون منه سبحانه، ومن تمام عبوديتهم له سبحانه وتعالى أنهم لا يقترحون شيئاً على الله عز وجل، كما قال تعالى: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا) وذلك لأن النبي عليه السلام كان شديد المحبة لجبريل عليه السلام، فكان يشتاق إلى نزوله عليه بالوحي وإلى ملاقاته، فلما قال له ذلك نزلت هذه الآية الكريمة في سورة مريم:{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم:64]. وفي القرآن الكريم نماذج من اجتهاد الملائكة في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأعظم ذكر يلزمه الملائكة هو التسبيح وتنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق، فهؤلاء حملة العرش قال الله عز وجل عنهم: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [غافر:7] وقال تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الشورى:5] وهذا التسبيح دائم لا ينقطع أبداً في ليل ولا نهار، يقول عز وجل:{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20] لا يصيبهم السأم ولا الملل، ولذلك حق لهم أن يفتخروا بأنهم هم المسبحون لله سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ لأنهم ملازمون للتسبيح لا ينقطعون عنه أبداً، فحق لهم أن يفتخروا بذلك، كما حكى الله عز وجل عنهم في قوله تبارك وتعالى: { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [الصافات:165-166]؛ أي: نحن المسبحون لله على الحقيقة. لأنهم لا يغفلون أبداً عن تسبيح الله سبحانه وتعالى، ولا شك في أننا حين نتصور هذا الأمر لابد لنا من أن نحتقر الأعمال التي نعملها، فليست شيئاً يذكر في جانب عبادة الملائكة، فنحن لن ننجو إلا برحمة الله لا بالأعمال، ولكن مهما كانت فهل ستصل إلى عبادة الملائكة؟! وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده. سبحان الله وبحمده). أما صلاتهم: فالملائكة يصطفون عند الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقيل: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري . وقال سبحانه وتعالى في القرآن: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات:165] فهم يقومون ويركعون ويسجدون، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. قال: إني لأسمع أطيط السماء) والأطيط هو صوت الأحمال على ظهر البعير، فعندما يكون مثقلاً بالأحمال على ظهره فإنه يئط من شدة الثقل، فهذا إشارة إلى شدة ازدحام الملائكة عليهم السلام في السماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأسمع أطيط السماء، وحق لها أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم). والملائكة لهم كعبة في السماء يحجون إليها، وهذه الكعبة هي التي أسماها الله سبحانه وتعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور لما تأتيه الملائكة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعدما جاوز السماء السابعة. (ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: أن الذين يدخلون كل يوم......
أحكام دفع الصائل
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه عن سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)، وهذا الحديث رمز له السيوطي بالحسن، وقال -أيضاً- في حقه: هو حديث متواتر. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله) فمعناه: عند ماله. وكلمة (دون) في الأصل هي ظرف مكان، تقول: جلست دونه. أي: في مكان أقل منه. فـ(دون) أصلها ظرف مكان بمعنى (أسفل) أو (تحت)، واستعملت هنا بمعنى: (لأجل)، (من قتل دون ماله) يعني: لأجل ماله، فهي للسببية؛ لأن الذي يقاتل دون ماله كأنه يجعله خلفه أو تحته ثم يقاتل عنه، وهذا ذكره جمع من العلماء. والمقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (فهو شهيد) أي: في حكم الآخرة لا في أحكام الدنيا، فلا تطبق عليه في الدنيا أحكام الشهيد الدنيوية من أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه ويدفن بدمائه، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بالشهيد. أما هذا فله حكم الشهادة في الآخرة لا في الدنيا، والمقصود من الحديث أن له ثواباً كثواب شهيد مع ما بين الثوابين من التفاوت، فهناك تفاوت -بلا شك- عظيم بين من يجاهد في سبيل الله ويقتل في ساحة القتال، وبين هذا الذي يقتل دون ماله أو عرضه أو دينه، فهو له ثواب كثواب الشهيد مع ثبوت التفاوت بين الدرجتين، والحكم له بالشهادة لأنه محق في القتال والدفاع عن هذه الأمور، كما أنه مظلوم بطلب هذه الأشياء منه، سواء أكان المطلوب غصب ماله، أم انتهاك عرضه، أم إراقة دمه، أم غير ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دمه) يعني: في حالة الدفع عن نفسه. كشخص يريد أن يقتله ويصول عليه بالقتل، فهو يدافع عن نفسه، فمن قتل دون دمه في الدفع عن نفسه فهو شهيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون دينه)، المقصود به: من قتل في نصرة دين الله تبارك وتعالى والذب عنه وقتال المرتدين؛ لأن المرتدين خارجين على الدين، فهو شهيد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل دون أهله) أي: في الدفع عن بضع حليلته أو قريبته. يعني العرض أو الشرف، فقوله: (ومن قتل دون أهله) أي: مدافعاً عن أعراضهن (فهو شهيد) بحكم الآخرة لا بحكم الدنيا؛ لأن المؤمن بإسلامه له حرمة ذاتاً ودماً ومالاً وأهلاً. إن كل ما سبق من الأمور ينبغي أن تحترم ولا تنتهك، فإذا ورد شيء من ذلك جاز له الذب عنه أو وجب على الاختلاف المعروف، وهذه مسألة أخرى، وهي: هل الدفاع الشرعي في هذه الحالة واجب أم أنه جائز فقط؟ ويحسن بنا في أثناء تناول هذه المسألة أن تتناول كل مسألة منها على حدة؛ فإن للعلماء خلافاً في ذلك وتفصيلاً. وضابط أمر الدفع أنه يدفعه دفع الصائل، فلا يصعد إلى رتبة وهو يرى ما دونها كافياً، فإذا أدى هذا الدفاع المتدرج الذي يحتمل الشروط الموجودة في فقه دفع الصائل إلى قتله فهو هدر، أي: لا قصاص على القاتل. لأنه كان في حالة الدفاع عن النفس. وهذا الحديث هو العمدة والأساس في باب معروف من أبواب الفقه هو باب الدفاع الشرعي، أو ما يعبر عنه في الفقه بـ(دفع الصائل).......
ضوابط دفع الصائل
ما هي الضوابط التي تحكم الإنسان إذا صال أو اعتدى معتد على شيء من هذه الأشياء المحترمة؟ لقد خصص لهذا الدكتور وهبة الزحيلي فصلاً مستقلاً في رسالته: (نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القوانين الوضعية) وهو أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الشريعة والحقوق، ورئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق سابقاً. يقول -حفظه الله تعالى- في هذا الفصل الذي وضح فيه شروط وضوابط قضية دفع الصائل: إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أو صالت عليه بهيمة -لأن العدوان لا يشترط فيه أن يكون من إنسان، فقد يكون من بهيمة- فللمعتدى عليه أو لغيره أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء حسب تقديره في غالب ظنه، مبتدئاً بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام، واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب. يعني: إذا كنت تستطيع أن تدفعه برفع الصوت وطلب المعونة من الناس والاستغاثة بهم فيما يقدرون عليه من معاونتك على ذلك فيحرم عليك أن تتدرج إلى مرحلة أشد وهي الضرب والقتل، ويجب عليك أن تفعل ذلك فقط، فإذا كان يندفع بضرب اليد فيحرم عليك استعمال السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو حرم القتل؛ لأن ذلك جوز للضرورة استثناءً من قاعدة: (الضرر لا يزال بالضرر)، وأصل هذه القاعدة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) أي: نهى عن أن يضر الإنسان الآخرين ابتداءً، ونهى عن أن يقابل إضرارهم بإضرار، فأخذ من هذا الحديث قاعدة أن الضرر يزال، ثم صرح العلماء بأن الضرر يزال لكن بدون أن توقع ضرراً، ولنفرض أنه لابد من وقوع ضرر واضح، ففي حالة وقوع ضرر ومنفعة فالضرر يقدم على جلب المنفعة، وإذا كان هناك احتمال أن يحصل ضرران لكن أحدهما أشد من الآخر، فيرتكب الضرر الأخف دفعاً للأشد. إذاً: الضرر يزال لكن لا بضرر، فإن كان لابد من ضرر فيختار أخف الضررين. وليس هناك ضرورة تلجئك إلى أن تستعمل الأخطر والأشد مثل قطع العضو وأنت تستطيع أن تدفعه بالضرب، ولا ضرورة في اللجوء إلى الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فمادام أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك أو مالك أو عرضك بالشيء الأسهل فلا تنتقل إلى ما هو أشد منه وأثقل، فالدمع بالأشد إنما يصبح في حال الضرورة، وليس ضرورة كونك تستطيع دفعه بما هو أخف. يقول: ومن المعلوم أن الضرورة تقدر بقدرها، حتى إنه إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء بحصن أو جماعة فيجب عليه ذلك عند الشافعي ، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل بحيث إذا كان يحرز نفسه أو أهله أو ماله في مكان فلا يناله هذا الصائل، والشافعية يوجبون عليه أن يلتجئ إلى هذا المكان، ولا يدفعه بالقتل أو غيره، وهو وجه عند الحنابلة؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره فلا يلجأ إلى الأشد. قال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (إذا انكف الصُوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) والصيال: مأخوذ من قولهم صال الفحل صولاً وصيالاً: إذا وثب البعير عل الإبل يقاتلها، فمن يعدو على الناس ويقتلهم يقال له صائل، يقول العز رحمه الله: (إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم) فمادام أنهم توقفوا عن العدوان على الدم أو النفس أو المال أو الأرض فإنه يحرم قتلهم وقتالهم.
أدلة دفع الصائل
الدليل على مشروعية هذا المبدأ قوله سبحانه وتعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:194] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، فهذا دليل من القرآن على وجوب احترام هذه القاعدة، وهي قضية التدرج وعدم الأخذ بالأثقل مع إمكان الدفع بالأسهل، يقول تعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [البقرة:194] يعني: { ولا تزيدوا عن المثلية، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة:194]. فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة أخذ مبدأ المماثلة، أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، أما السنة فقد ذكرنا حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة الذي صدرنا به الكلام، وهناك جملة أخرى من الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه). فلما كانت هذه العين خائنة أصبحت هدراً، وإنما شرع هذا أساساً لأجل البصر، وحتى لا تقع عيون الناس على عورات البيوت، فإذا كان هذا يدخل بعينه عن طريق النظر من خلال الثقوب أو غير ذلك فكأنه دخل؛ لأن العبرة بوضع الأبواب والستائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فإذا كان قد انتهك حرمة البيت وامتدت عينه الخائنة إلى عورات الناس في بيتهم فإنهم إذا فقئوا عينه بأي آلة وهو ينظر من هذا الثقب فإن عينه هدر ولا قصاص هنا في هذه الحالة؛ لأنه معتد بانتهاكه حرمة بيوت الآخرين، وهذا نوع من الصيال والعدوان على الناس. ومن هذه الأحاديث -أيضاً- أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه بشدة فوقعت ثنيتاه، أي أن الثاني عض يد صاحبه بشدة لدرجة أن الثنيتان انكسرتا ووقعتا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (يعض أحدكم يد أخيه عض الفحل! لا دية لك) أي: أنت الذي تسببت في ذلك وعضضته وهو يدفع عن نفسه ويحاول أن يخلص يده. فلذلك أهدر هاتين الثنيتين ولم يوجب عليه الدية. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن عدى على مالي؟! قال: انشد الله) يعني: انشده بالله، واستحلفه بالله أن يتركك ومالك ولا يعتدي عليك، قال: (فإن أبو علي) أي: فعلت ثم أصروا على أن يعتدوا على مالي، قال: (قاتل، فإن قُتلت ففي الجنة، وإن قَتلت ففي النار) أي: الذي قتلته يكون في النار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فيه من الفقه: أنه يدفع بالأسهل فالأسهل. وروى يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (كان لي أجير، فقاتل إنساناً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه فأنزل ثنيته -يعني: أزال ثنيته التي هي أسنان مقدم الفم- فسقطت، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال: ( أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟! )) أي: أتريد أن يتركك تقضم يده وتقطعها كما يفعل الفحل؟! فهو يدافع عن نفسه وينتزع يده حتى ينجيها وينقذها. فهذا فيما يتعلق بمبدأ الدفاع عن النفس الدفاع الشرعي أو دفع الصائل. ويدخل في دفع الصائل وفي الدفاع الشرعي -أيضاً- الدفاع عن الأخرين، والدليل على جوازه وأساس هذا المبدأ هو الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، والحرمة في المجتمع الإسلامي تشمل اثنين: المسلم والذمي؛ لأن عهد الذمة الذي يعهده الإمام لأهل الذمة ينبغي أن يحترم ولا ينتهكه أحد، فيعتبر محترماً أو معصوماً، بمعنى أنه لا يجوز الصيال ولا الاعتداء على ماله أو عرضه ونحو ذلك. فأساس هذا المبدأ أو جواز الدفاع عن الآخرين هو: الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، ولولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة). فهذا شيء مما يتعلق بالأدلة على مشروعية مبدأ الدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسئولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً، ويحاكم من أجلها، ويعاقب ويتحمل المسئولية.
شروط دفع الصائل
أما شروط جواز دفع الصائل والأخذ بهذا المبدأ فهي أربعة شروط. أولاً: أن يكون هناك اعتداء في رأي أكثر العلماء، فلابد من أن يكون هناك اعتداء وصيال، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها. فالأحناف يقولون: يكون هذا الاعتداء عبارة عن جريمة يعاقب عليها. وجمهور العلماء يقولون: يشترط أن يكون اعتداءً يدخل تحت مسمى الاعتداء، وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداءً، وهذه الأشياء لا تدخل في مصطلح الاعتداء، فالأب له حق التأديب، والذي يؤدب ابنه عن طريق الضرب هل معناه أن لهذا الولد أن يقول: أبي يصول علي؟ لا. وكذلك المدرس إذا كان يؤدب تلميذه، ففعله لا يسمى اعتداءً، فهو يمارس حق التأديب، وكذلك المرأة الناشز جواز ضربها معروف بشروطه، فهذا -أيضاً- لا يعني صيالاً ولا عدواناً، وكذلك فعل الجلاد الذي هو موظف في الدولة الإسلامية يقوم بإقامة الحدود، فالحاكم أو الخليفة يأتيه بالشخص الذي يستحق الجلد حداً أو تعزيراً فيقيم عليه أمر الخليفة أو القاضي، فمثل هذا لا يطلق عليه أنه اعتداء، وكذلك فعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية؛ لأن الاعتداء لابد من أن يكون جريمة معاقباً عليها، قالوا: والصبي والمجنون والحيوان إذا صالوا على الإنسان فهذه ليست جريمة يعاقب عليها ولا يوصف الفعل فيها بكونه جريمة. الشرط الثاني: أن يكون الاعتداء في الحال واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ومهدداً به فقط. أي: أن يكون الاعتداء في الحال، ويريد الصائل أن يعتدي بالفعل ليقتلك أو ليسرق مالك أو ينتهك عرضك، أو غير ذلك من الفعل الواقع في الحال، وليس مجرد تهديد غير مهم، كمن يقول لك سآخذ مالك، سأقتلك. فهذا مجرد تهديد لا يدخل في هذا الباب، فلابد من أن يكون الاعتداء واقعاً بالفعل لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط. الشرط الثالث: أن لا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا وجدت وسيلة أخرى ممكنة لدفع الصائل وجب استعمالها، فإذا أمكن دفعه -مثلاً- بالصراخ والاستغاثة فليس للمصول عليه أن يضربه أو يقتله، فإن فعل كان فعله جريمة، وإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة أو استطاع المصول عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال العنف فليس له أن يستعمله. الشرط الرابع: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لرده، فإن زاد على ذلك فهو اعتداء لا دفاع، فليس للمصول عليه أن يدفع الصائل بالكثير إذا كان يندفع بالقليل، وليس له أن يضربه إذا كان يندفع بالتهديد، وليس له أن يضربه بآلة قتل كالحديد إذا كان يندفع بضربه بالعصا، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
تسهيلاً على زوارنا الكرام يمكنك الرد من خلال تعليقات الفيسبوك
|
|