الجهل بأولويات الشريعة د. محمود إسماعيل
الثلاثاء 08-05-2012
معلوم أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأن العقيدة أحكامها قاطعة، لا
مجال فيها للتأويل وإعمال العقل. لذلك جاء الخطاب القرآنى بصددها تقريرياً
حاسماً، والإيمان بها لا يحتمل الرأى والنظر؛ «فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر»، «وما على الرسول إلا البلاغ». وتعليل ذلك يكمن فى كونها علاقة بين
المرء وربه.
أما الشريعة فتتعلق بتنظيم العلاقة بين البشر؛ بين المسلمين أنفسهم،
وبينهم وبين المغايرين فى العقيدة. ومن الشريعة ما يختص بالعبادات وما
يتعلق بالمعاملات. وأحكام العبادات قطعية وحاسمة أيضاً، لا لشىء إلا لكونها
من أصول الدين. أما المعاملات فأحكامها «مفتوحة» للرأى والمراجعة والتعديل
وفقاً لطبيعة المتغيرات الاجتماعية ومقتضيات الصيرورة والضرورة؛ طالما كان
الهدف هو تحقيق المقاصد والغايات التى تستهدفها أحكام الشريعة.
ولعل ذلك هو ما يفسر كون القرآن الكريم -المصدر الأول للتشريع- لا
يفصل فى تقرير الأحكام إلا حين يعالج «الثوابت»؛ كالزواج والطلاق والإرث..
وما شابه.
وما هو دون ذلك - ويشكل جل أحكام الشريعة- جاء فى صورة مبادئ عامة
تشكل «دستوراً» -إن جاز التعبير- يمكن «الاجتهاد» بصددها فى صيـــــاغة
«قوانين» قد تختلف حسب معطيات الزمان والمكان والظـــروف، طالما تحقق
مقـــــاصد الشريعة التى تتمحور أساساً حول مــــفهوم العدالة؛ «فشريعــــة
العدل هى شريعة الـــله». ولا غرو؛ فالآيات القرآنية الخاصة بالتشريع
تحتمل مبدأ «التأويل»؛ حيث تدخل فى إطار «المتشـــابه» على عكس «الآيات
المحكمات» الخاصة بالعقيدة.
والسنة النبوية -المصدر الثانى للشريعة- تنطوى على نوع من
«التعددية» بصدد الموضوع الواحد؛ لا لشىء إلا لتغير معطيات الواقع. ولِمَ
لا؟ والقرآن الكريم نفسه أعطى المثل فى «الناسخ والمنسوخ» للسبب عينه.
للسبب ذاته اختلف فقهاء أهل السنة الأربعة فى صياغة الأحكام؛ حسب
موقفهم من مبدأ «الاجتهاد» الذى يشكل دعامة الفقه الإسلامى. فالإمام مالك
وارب باب الاجتهاد، بينما فتحه أبو حنيفة على مصراعيه، لا لشىء إلا لاختلاف
نمط الحياة فى المدينة عنه فى بغداد العباسية «حاضرة العالم» التى مارت
بنشاط سياسى واجتماعى واقتصادى متعاظم أفرز قضايا ومشكلات لا مناص من
الاجتهاد لحلحلتها.
ولعل هذا يفسر رفض الإمام مالك اقتراح الخليفة المنصور بأن يجعل
«الموطأ» تشريعاً للإمبراطورية العباسية، كما يفسر تطور مذهب مالك فى رحلته
غرباً بمصر وبلاد المغرب والأندلس؛ حيث صار أقرب إلى فقه أبى حنيفة؛ على
يد الليث بن سعد وسحنون وغيرهما. كما يفسر بالمثل اختلاف فقه الشافعى حين
أقام بالعراق عنه عندما عاد إلى مصر.
خلاصة القول أن أصحاب الاتجاه «الإسلاموى» المتشدقين بالدعوة لتطبيق
أحكام الشريعة الإسلامية لا يفقهون أولوياتها؛ بل يتسترون وراء هذا الشعار
لتحقيق أغراض سياسية ليس إلا؛ وهو ما سندلل عليه فى مقالات تالية.